متى يعود العرب إلى العرب؟

04:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. نسيم الخوري

تتيح لي فرص التنقل بين بعض العواصم الأوروبية ومدنها والعاصمة البريطانية، تلمّس قلق الإنسان العادي هنا، وبؤسه الدفين. ما إن تفكّ عقدة أمامه مستقبل بلاده ووحدتها حتى تبرز عشرات العقد الجديدة. يسرح بك التفكير إلى تلك الشراكة الفظيعة بين ساكس الفرنسي وبيكو البريطاني، اللذين دمغا العرب وانتباهاتهم وثوراتهم وأفكارهم؛ بعدما سحبت الدولتان تلك البلدان، وتقاسمتها من أيدي آل عثمان، الذي يجهد ببعثهم لاعب الكرة أردوغان.
لم تتحرّر بلداننا في المشرق العربي بعد، بالمعنى الثقافي؛ لأنّ أمريكا ومعها الصين ومعظم الدول الكبرى داهمتنا متزاحمة فوق طريق الحرير عند هذه الشواطئ هناك بكلّ المعاني التجارية والعسكرية والاجتماعية والثورية. لا تدفعك المعضلات المطروحة هنا للبحث عن المستقبل بقدر ما تأخذك إلى الوراء؛ للسؤال مجدّداً مع أندريه مالرو عن مستقبل هذا الإنسان الأوروبي/الإنجليزي إن كان ميتاً على هذه الأرض القديمة/الجديدة أم لا؟ وتأخذك صفات الضياع لهذا الإنسان التائه الباحث عن لقمة الخوف من المستقبل في أرجاء الأرض.
جسّد نصّ لبول فاليري كيفية إدراك الإنسان لفنائه في سعيه المجنون: «نحن نعرف أنّ حضارتنا فانية. سمعنا أحاديث عن عوالم زالت وإمبراطوريات انهارت بكلّ ما تحمله وتظهره من رجالها وعتادها. كلّها سقطت في غور الزمان الذي يتعذّر كشفه وتنظيفه وإظهاره جيّداً من بين الركام. سقطت مع آلهتها وقوانينها وأكاديمييها وقواميسها. إنّنا نرى هاوية التاريخ كبيرة بما يستوعب الجميع، ونشعر بأنّ للحضارة هشاشة الحياة ذاتها». أكاد أتقمّص مشاعر فاليري مظهراً أنّ رغبة الحفر في جبال المستحيلات قد تعيدنا إلى الكوارث والبربرية. يمكن دعم هذا الشعور وإظهاره؛ إذ تدرك «الحضارة» المجنونة التي نركض خلفها المهدّدة مجدداً بما يعيد الأرض إلى ما قبل العصر الحجري بعد ازدهار الأسلحة النووية، وكأنّ تلك الأرض جاهزة في لحظةٍ من تخلّيات الإنسان أو التواءات خياله وجنونه، للتبدّد كما الرماد في مجرّات الفضاء.
أفكّر من أوروبا بالوطن العربي لا العالم العربي أو الأوطان العربيّة، وكأنّها لا تفترق عمّا أستعيده من صور أوروبا المدمّرة والمقسّمة والمهزومة والمدمّاة والمهدّمة المدن. لا فرق كبيراً بين أوروبا والعرب، وبين القارات والدول في الصعود والهبوط. لا أدري إن كان ما يحصل في سوريا هو خاتمة المطاف في الرماد والتدمير والتبديد. هناك مشاعر يومية تجتاح جسد العرب من أنّ تغريدة واحدة قد تعيدهم إلى الجحيم أو إلى الصحارى في استعادة جاهزة للحروب الكونية. منذ أن صارت القدس عاصمة فلسطين عفواً عاصمة «إسرائيل» يتروّض المصير عبر لوحات/فرمانات أمريكا اليومية الممهورة بتوقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام كاميرات العالم كان آخرها منح هذه ال«إسرائيل» هضبة الجولان. لا يمكن الإحاطة بمعاني الجولان لمن لا يعرفها أو يعاينها من بعيد. الأخطر من كلّ هذا بما يتجاوز بكثير كلّ الأفكار الواقعية أو السيناريوهات الخيالية التي يتشاطر المحللون العرب في إظهارها حول «صفقة القرن» التي تنام فوق ألسنتهم، أن نستفيق على ضمّ جبل الشيخ أو حرمون إلى «إسرئيل» بتغريدة. وأنت تتواجد في قلب الغرب فكأنّك لم تخرج من رحم جبل حرمون، وقد ولدت منه ومهرت العديد من مؤلفاتي ونصوصي ب:«نسر حرمون». هو جبل التجلّي وجبل الثلج «ثوران ثلجي» الذي يحتضن قرابة المليار و250 مليون متر مكعب من المياه. ليس هو جبل هاردوف، الذي يزعم اليهود أنّ إبراهيم الخليل قد صعد إليه مقدّماً ابنه ذبيحةً للخالق.
لا نسيان للعرب في استعادة لملامح أوروبا. أمس، عادت بلادنا إلينا، وكانت مستعمرات أوروبا في الجنوب، وسيطرنا إلى حدود معقولة على مصائرنا، بعدما عادت أوروبا المنزوعة السلاح والمبتورة للاعتناء بجروحها والبحث عن محو قرون من العداوات والأحقاد والنزاعات الحدودية والمنافسات العسكرية والكراهية. وعدنا مثلاً نتلمّس نموّاً اقتصادياً مذهلاً في لبنان في ال1970 وما تلاها بما شكّل صدمة نهضوية وثقافية هائلة، وها نحن نترنّح هناك بكلّ الأزمات وفي رأسها الاقتصادية والمالية والنقدية والفساد ، أو تفجّر البترول والغاز المسجون تحت الإبط «الإسرائيلي».
عادت أوروبا إلى أوروبا ولا أعرف إلى أين تذهب أمامي؛ لكننّي أجهل تماماً متى يعود العرب إلى العرب لا بمعنى التحلّق في الجامعة العربيّة؛ بل ونحن في الدنيا فوق حفافي تغليب الإيمان والخوف على العقل وتصاعد الإيمانية الطهرية المنبعثة بقوّة هائلة في أمريكا ومثلها روسيا وباكستان والهند وإيران ولبنان والعديد من البلدان العربيّة؛ حيث تملأ الأصوليات فراغ المجتمعات.
صحيح أنه لا يوجد فروق كبير بين القارات والدول أو بين إنسان وآخر؛ لكننا محاصرون بالإجابة عن السؤال: متى يعود العرب إلى العرب؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"