العودة إلى قابيل

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.نسيم الخوري

أكتب وبين يديّ الكتاب الضخم «ترامب بلا قناع». أرحل معه بانتظار بلورة التجديد لمفهوم العظمة الدوليّة، وكبح مظاهرها بين الداخل والخارج، حيث سياسات الطموح، والغرور، والمال، والنفوذ، ومحاولات الإخضاع واسترجاع العهد القديم، بأفكاره ومظاهره، ولترتسم في أذهاننا وحبرنا الأسئلة الكثيرة حول صور المستقبل.

يمكنني التذكير بأنه بعد سيطرة الإنسان على الأرض واجتيازها، وتحديدها، واقتسامها، وقوننتها بين الدول والشعوب، جاء اجتياز البحار والمحيطات للسيطرة عليها، وعلى ثرواتها، ليجد البشر أنفسهم اليوم أمام زمن هائلن ومُحيّر في قوننة الفضاء، وصعوبة اقتسامه، لنقع في مستنقعات التخبّط الهائل في الاتصال البشري بمختلف اللغات، والثقافات، والفلتان المحكوم بالفوضى والتحقير، ونسف الحقائق إلى التصفيات السياسية الدولية. أنجازف إن افترضنا أن الحضارات قد اندثرت، أو تداخلت لتتحوّل الكرة الأرضية معارض هويات تغوص في العهود القديمة متداخلة متشابهة، ومتنافرة ومتصادمة، يتقدّمها عنصر النار أمام العناصر الثلاثة التي كوّنت الإنسان، أعني التراب والماء والهواء؟

الجواب قطعاً لا. لماذا؟

لأنّ المسافة بين قابيل وهابيل، والحرب والسلام، باقية، ومتوفّرة، ومشتتة في هذا العالم. من يملك الإجابات المحكمة، ويمتلك الدواء الفعّال، مثلاً، حيال ما حصل، ويحصل من حولنا في مدننا، أو مدن العالم من الحروب والذبح اليومي، والقتل الشرس بالأسلحة التي تتيحها التكنولوجيا، كما بالحجارة والسكاكين، ودهس المارة، وتشليحهم، وقتلهم، ورميهم على أرصفة الطرقاتن وفي ساحات العواصم العالمية. أتُصدّقون أن لبنان بات مثالاً مرعباً لا يمكن تصوره في المجال؟

سؤال: متى سيتمكّن العالم من التوفيق بين تكنولوجيا المعلومات المشرّعة الآفاق، وشيوع الكراهيات والإرهاب الهائل، بغرض التعرّف والحفاظ على بقايا الديمقراطية النافقة، وشعاراتها غير العمليّة؟ أيمكننا التأشير نحو تلك العودة النكوصية المتعاظمة نحو قابيل، كأن الإنسان لم يخرج من حيوانه بعد؟

لا جواب مقنع بعد. تصدمنا الإهانات بين مرشحين نحو البيت الأبيض، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي في بلادنا، خلال أزمنة الحروب والكوارث، وفيهم قادة الفكر والسياسة والأدب، لدرجة أصبحت وسائل المعلومات والتواصل نقائص، ونقيضاً للديمقراطيات، كأنّ الاتصال بين البشر صار مرضيّاً مفكّكاً يحشر الإنسان في ساديته، وسرعة انفعالاته، وتعبيراته.

سبق وأن بلغت الشهيّة البشرية أصقاعاً غير مسبوقة في العمل على رفع الفكرة الديمقراطية، وتقديسها، لكأنّها مخازن التجارب والأشكال والثقافات التي يُمكن تحقّقها الأرض، ويجب تعميمها، ورعايتها، وترسيخها بكونها الضرع في توليد الحريّات والتطور، وكشف الأغطية السميكة والمظلمة عن شعوب العالم، حتّى وإن انزلقت هذه التجارب نحو الاستغراق في الحروب والدماء، ناسفة فكرة بناء المجتمعات والأوطان المستقلّة من أسسها. هذه الفكرة القائلة بالتقدم والتغيير العجيب والرائع بدت من فلسطين مُشبعة بالعنف والضحايا، وقلق الشعوب والأنظمة، والتلاعب بالإنسان وبالرأي العام.

حلّ الوقت الذي يسمح فيه ابن الشرق الأوسط لنفسه مثلاً التفكير في الخروج من آلامه وأمله وملله التاريخي، في تعداد الضحايا والخرائب والضياع من حوله وترقّب السلام.

يستيقظ أبداً على مشاهد جمع الركام الذي يتمّ تحميله لأضواء وسائط التواصل الاجتماعي في مستقبل الدول والبشر في بلدان العالم، ومن حولنا. وقعت الكثير من الأنظمة في شبكة الإنترنت، وأضاعت سلطاتها وقدراتها في ضبط الناس الذين أداروا ظهورهم لكلّ ما يضبطهم من حولهم، وراحوا يلهثون ويلعبون بحثاً عن امتلاك كلّ الوسائل التواصلية التي عبّدت الطرق نحو أرجاء الدنيا الواسعة، مولّدة الانتفاضات الشعبية التي شهدناها على سبيل المثال في إيران (2009)، كما في أرجاء العالم العربي الذي تبعثر واهتزّت مفاصله بدءاً من عام 2011، وفي أوكرانيا في ال2013-2014 وغيرها. وتجاوزت الاستراتيجيات حدود الألعاب التواصلية، ووضع العالم يده على قلبه مستفيقاً على ضخامة الإرهاب المتعدد الهويات، عاجزاً عن إيجاد صياغة منظمات وقوانين دولية تجدّد معاني الاستقرار البشري المتدهور مجدداً نحو الحرب الكونية الثالثة.

أيصبح التواصل والتقارب مساحات للرفض، والنقد، والكراهية، والتحقير، والشتائم، والإرهاب، والتهديد بالقتل، إلى التحرش الجنسي والعرقي، والأفكار السوداء تطفح بها شبكات الإنترنت، حيث شيوع العنف والسطو، والخدع، والسرقات، والحذف، والإلغاء، والسرقات، كأننا في بداية التفاهم البشري؟

صحيح أنّ أنظمة وشعوباً خشيت العصر الرقمي، وحافظت على مواقعها وراحت تسيطر على تلك الوسائط لتوظفها، لأنّ الكلمة، أو التغريدة الرسمية صارت مثل القنبلة النووية تأخذ مداها وتأثيراتها البشرية، لكنّ الصحيح أن التساؤلات تتوسّع بحثاً عن ضبط المشاعيات في التعبير، ونقل الصور. تتشوّه الديمقراطية باعتبارها باتت سلعة تتطور وفقاً لمقتضيات الأنظمة التي تقفز من فوق السطوح للّحاق بالعصر، أو بالديمقراطية، أو بشعوبها. هكذا يلتبس أحياناً علينا من هو صاحب الحق، أو السلطة، في هذا العالم الذي يحتفظ بالبيانات والنصوص والصور التي تجمعها هواتفنا، وساعاتنا، ووسائلنا التواصلية، لتصبّ كلّها في أقنية وادي السيليكون، وغيرها من مؤسسات «البيغ داتا» في العالم التي تحصي أنفاسنا وتضبط تنقلاتنا؟

يكمن الجواب في البحث عن مفاهيم القيم والأخلاق بين دول العالم، وهو ما استغرق فيه مكيافللي في كتابه «الأمير»، فاصلاً انفصالاً بيّناً ما بين التفكير، أو السلوك السياسي، والابتعاد عن الأخلاق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2wsxn6r9

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"