مراحل البوتينية الأربع

03:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

في عام ،1970 ذَكَر المنشق السوفييتي أندريه أمالريك في كتابه هل يتمكن الاتحاد السوفييتي من البقاء حتى العام 1984؟ أن كل الأنظمة الشمولية تشيخ دون أن تدرك ذلك . وكان أمالريك على حق، ومن المرجح أن ينهار النظام الذي أنشأه في العام 2000 الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وربما هذا العام لنفس السبب الذي أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي في العام 1991 .

ينبغي لنا أن نتذكر أن انهيار الاتحاد السوفييتي لم يكن راجعاً إلى خيانة الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف الإصلاحية، ولم يكن ناجماً عن هبوط أسعار النفط، أو حشد الرئيس رونالد ريغان العسكري . إن الشيوعية السوفييتية كان محكوماً عليها بالزوال قبل فترة طويلة، عندما ماتت الأسطورة الشيوعية، كما توقع أمالريك، في قلوب وعقول الناس العاديين والمسؤولين على حد سواء .

في غضون ثلاثة عشر عاماً فقط، مَرّ نظام بوتين، بأسلوبه الأيديولوجي الفخم، عبر كل مراحل التاريخ السوفييتي، فتحول إلى محاكاة مبتذلة لكل مرحلة من تلك المراحل .

تتلخص المرحلة الأولى، أو مرحلة خلق الأسطورة الكفيلة بإضفاء الشرعية على النظام، في توليد صورة المؤسس البطل، والد الأمة . وفي حين واجه البلاشفة ثورة ،1917 فإن البوتينيين واجهوا حرب الشيشان الثانية العام 1999 وتفجير المباني السكنية في بويناكسك، وموسكو، وفولغودونسك في العام نفسه . ومن هنا وُلِدَت أسطورة ضابط الاستخبارات البطل الذي يحمي الروس في بيوتهم في حين يبث الرعب في قلوب أعداء الأمة .

ومن الممكن أن تسمى المرحلة الثانية فترة العواصف والضغوط، فقد ازدهر عصر ستالين بالتصنيع القسري الذي زرع بذور دمار النظام الشيوعي . ومن جانبه عمل بوتين على بناء قوة عظمى في مجال الطاقة، فحول البلاد إلى دولة أشبه بجمهوريات الموز ولكن بالاستعانة بالمواد الهيدروكربونية .

وتأتي المرحلة الثالثة لتمد الأسطورة عبر الانتصار البطولي . فقد نال السوفييت النصر في الحرب العالمية الثانية، وأعقب ذلك نشوء قوة عظمى عالمية . وادعى أنصار بوتين الانتصار بعد غزو جورجيا الضئيلة العام 2008 .

وأخيراً، يعاني النظام من الإجهاد الأيديولوجي وسكرات الموت، ولقد استغرقت هذه المرحلة حتى بلغت منتهاها مع الشيوعية السوفييتية . ولكن المحاكاة التافهة تنهار بسرعة أكبر كثيراً . والواقع أن المؤتمر الصحفي الذي عقده بوتين وامتد لأربع ساعات في ديسمبر/كانون الأول، يذكرنا بزوال الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشيسكو في اجتماع حاشد منظم العام ،1989 عندما ووجه بالمجادلات والاحتجاجات .

الواقع أن روسيا تعيش الآن بالفعل عصر ما بعد بوتين، لأنه لم يعد قادراً على أداء مهمته توفير الأمن لحكم النخبة الثرية، وكما حدث في العام ،1999 عندما استنفد بوريس يلتسين نفعه بالنسبة إلى النخبة، فإن الاقتتال الدائر حالياً بين فصائل النخبة لا يعني سوى أمر واحد، هو أن البحث جارٍ عن خليفة . والسؤال الآن لم يعد ما إذا كان نظام بوتين قد يتمكن من البقاء، بل ماذا قد يأتي من بعده؟ وسوف تكون عملية الانتقال المقبلة مختلفة بشكل ملحوظ عن انتقال السلطة في العام 1999 . فلن تكون شأناً خاصاً بالقصر الحاكم، ولن تكون مغلفة بتعبئة وطنية حاشدة للجماهير بواسطة الدعاية التلفزيونية ضد الإرهابيين والعدو الغربي . بل إن العملية الحالية أشبه بما حدث في وسط وشرقي أوروبا العام 1989 والاتحاد السوفييتي العام ،1991 حيث يفسح حماس المحتجين المجال أمام الإحباط وخيبة الأمل مع احتفاظ أفراد من النظام القديم بقوة اقتصادية وقوة شبه سياسية .

والواقع أن الوريث المحتمل اليوم يحتاج إلى الشرعية، ليس فقط شكلاً من أشكال القِلة القوية، بل وأيضاً من الشارع . ولهذا السبب فإن من يسمون بأحرار النظام، أو الموالين الذين يؤيدون التغيير المدعوم من قِبَل الكرملين، يريدون السيطرة على حركة الاحتجاج واستخدامها كأداة ضغط في المعركة الأخيرة ضد أجهزة بوتين العسكرية والأمنية .

ويعتقد أحرار النظام أن روسيا نجحت على وجه العموم في بناء اقتصاد سوق مقبول، ولا تتطلب تنمية الاقتصاد إلا إزالة بعض المقربين من بوتين من خلال الإصلاح السياسي الموجّه . وحتى وقت قريب، كان الموالون يزعمون أن السعي إلى التغيير يحول دون انتقاد الحكومة التي ينبغي التأثير فيها بشكل أو آخر من خلال اقتراحات بنّاءة، ولن تؤدي المطالبات باستقالة بوتين إلا إلى تهميش حركة الاحتجاج .

ولكن اليوم أصبح خطاب الموالين أكثر عدوانية، فهم الآن يزعمون أن بوتين شخصياً اختار القمع في الاستجابة لحركة الاحتجاج التي ملأت شوارع موسكو وغيرها من المدن الكبرى في أواخر 2011 وأوائل 2012 . أما الساسة الذين لا يرون بديلاً للمحاكم والمحاكمات الجنائية فلا يمكن احترامهم .

والواقع أن تطور موقف الموالين لم يكن قائماً على المصادفة، فيتعين عليهم أن ينظروا إلى مزاج حركة الاحتجاج، فضلاً عن استطلاعات الرأي التي تشير إلى أن تأييدهم الشعبي متأخر خلف الجمهوريين بهامش تسعة إلى واحد . ويرى الجمهوريون أن اقتلاع النظام السياسي والاقتصادي الذي نشأ في عهد يلتسين وترسخ في عهد بوتين يُعَد بمنزلة مهمة إنقاذ وطني .

والأمر الأكثر أهمية هو أن الرؤية الاستراتيجية التي يتبناها الموالون تغيرت على مدى الأشهر القليلة الماضية . ففي أكتوبر/تشرين الأول ،2012 خططوا للتفاوض مع بوتين على تغييره في غضون عام أو ما إلى ذلك . وكانت الفكرة تتلخص في تعيين موظف أكثر ليبرالية، مثل أليكسي خودرين، وزير المالية الأسبق، أو نصير حكم القِلة ميخائيل بروخوروف .

ولكن حدث خطأ ما: فقد تعَذّر إقناع بوتين، ومن ناحية أخرى، أصبح بوتين عاجزاً عن السيطرة على الاقتتال بين النخبة . ومع تصلب مواقف المعارضين، أصبحت روسيا جاهزة لتقبل ثورة سلمية ضد الجريمة . وحتى إذا ترك بوتين منصبه هذا العام، فإن هذا لن يكون كافياً، فلن يكون النصر لروسيا وشعبها إلا إذا رحل مع بوتين أولئك الموالون للكرملين الذين يبحثون عن خليفة له .

* عالم سياسي روسي، وزميل زائر لدى معهد هدسون في واشنطن، والمقال ينشر بترتيب مع بروجيكت سنديكيت

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"