معمار زها يشهد على خيالها المبدع

05:12 صباحا
قراءة 3 دقائق
د.أمينة أبو شهاب

هنالك حدود للمرأة وما يمكن أن تصل إليه في عالم المهن في الغرب، ومن أكبر المستحيلات أن تحقق المرأة موقعاً تنافسياً مع الرجال في الهندسة المعمارية. فكيف استطاعت امرأة عربية مسلمة هي زها حديد أن تتجاوز ثلاثة حدود مستحيلة هي الأنوثة والأصل العرقي (حدود الإثنية) والحدود الأخرى أيضاً المتعلقة بالدين والحضارة والثقافة، وأن تحتل مكانة لم تحققها امرأة أخرى قبلها في الغرب لا بل وأن تتربع وحيدة على عرش المعمار الحديث؟
جواب هذا السؤال يحوي مضموناً سياسياً وحضارياً حتى وإن كان متوارياً سابقاً أو بعيداً عن المباشرة وأن يكون موضوعاً للتركيز. إنه يبرز بوضوح للعيان الآن في سيرة زها حديد وشخصها وفي طريقة فهمنا مجدداً لعملها ومغزاه وذلك بعد وفاتها. وكأن هذه الوفاة المبكرة قد سمحت بتفسير أكثر إنصافاً وحرية لمجمل هذا العمل ومعانيه وجوهره العميق. فالموت يفتح كعادته صناديق الحقائق على لسان الإنصاف والتقدير العالي الذي أنطق أعلاماً كباراً في الغرب في عالم المعمار والتصميم والفن والثقافة كي يفصحوا عن نوع «السياسة» المتمثلة في زها حديد وكيف كسرت جدراناً عتية على الاختراق وغيرت مسار الفن المعماري في الغرب.
تقول زها حديد عن نفسها إنها تقف على الحافة، وإنها لا تنتمي إلى «المؤسسة» بنظمها وقواعدها وأوامرها ومتطلباتها. المؤسسة هنا تعني النظام المجتمعي والسياسي في الغرب كما تعني مؤسسة المعمار الهندسي الغربي وأسسها ومنطلقاتها التقليدية وقيمها الجمالية. وكما تقول افتتاحية صحيفة «الغارديان» البريطانية، فإن المعمار الغربي قبل زها حديد كان قصة وتاريخاً من الضبط والتحديد والشكل الثابت الجامد. لغة المعمار الغربية كانت تقوم على الخطوط الصلبة المستقيمة وعلى المثلثات والزوايا الحادة. فضاء هذا النوع من المعمار كان فضاء لغرض الاستعمال وليس للأثر الجمالي وتغيير حركة البشر وعلاقتهم بالفضاء الداخلي والخارجي، هذا إلى استخدام المواد غير الصديقة في البناء.
البنيان الغربي المتين والجامد كان سيتغير على يد المهندسة الموصلية ليحوي عناصر الحضارة العربية الإسلامية ومفاهيم البناء فيها والقائمة على الدائرية والمنحنيات والتموج وتعدد وتعقد التراكيب. تلقت زها حديد تعليماً غربياً وتنشئة ثقافية ليبرالية، ولكن عقلها وخيالها كلاهما كان يختزن الجماليات الحضارية العربية وسحر البيئة العراقية بعناصر انسيابية المجاري النهرية وتموجات كثبان الصحراء وحركة البشر ضمن هذين العنصرين. الحرف العربي نفسه ليس حاداً بل لين ومنعطف، تماماً مثل حضارته التي لا تلتقي مفاهيمها الجمالية مع أسنان الزوايا وقساوتها. هذا الأساس التكويني التقطته زميلة بريطانية مبدعة في عبارات رثائها حين كتبت عن تعليم زها لابنها الصغير كتابة اسمه بالعربية. تقول أماندا ليفيت: «حين رأيت تلك الحروف أدركت أسس إبداعها».
تحضر زها حديد بشخصها إلى المعمار الهندسي كامرأة وكعربية بمقولة جد مختلفة هي: «لماذا الإصرار على زاوية واحدة عندما يكون هنالك 360». حضورها كان في رؤية فكرية عبقرية وإبداع جمالي لهندسة المنحنيات وكسر الثبوتية والجرأة الفائقة بل والراديكالية في استخدام التصميم وفي إنتاج الفضاءات المفتوحة المبهرة وفي تحدي جبرية الجاذبية عبر أبنية سابحة في الفضاء المكاني أو كما تقول: «آمنت بإمكانية إنشاء أبنية عائمة ومرتقية عن السطوح المعتادة».
تحدت زها حديد إذاً بمفاهيم ثقافتها الأساسية طريقة الرجل الأوروبي في التصميم والبناء، وأنتجت معماراً وأبنية «تشهد» على عقلها وخيالها المبدع كما تشهد على حجم التحدي الذي خاضته في الغرب كونها امرأة وعربية مسلمة والذي لم نكن نتصور حجمه قبل وفاتها وقبل إطلاق نوعية من المعلومات المتعلقة بخفايا عملها، وكذلك بيانات الرثاء من زملائها في المهنة والمجال التخصصي. كانت حديدية مثل لقبها أمام محاولات إفشال ورفض مشاريعها ونجحت كما لم تنجح امرأة أو مغترب عربي في إزاحة حدود وترسيخ مستويات من الأداء الحضاري الذي يقف شاهدا عليها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"