مكاسب روسيا وخسائر أمريكا في القوقاز

05:58 صباحا
قراءة 4 دقائق

استدعت أزمة القوقاز والحرب بين جورجيا وروسيا عقد قمة أوروبية طارئة لبحث أبعاد الأزمة على مستقبل العلاقات بين موسكو ودول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة كانت الغائب الحاضر في تلك الأزمة التي تهدد الاستقرار والسلم في أوروبا. كما بحثت القمة الأوروبية تحديد طبيعة التحرك الأوروبي المستقبلي للتعامل مع روسيا في أعقاب اعتراف موسكو باستقلال إقليمي أبخازيا وأوستيا الجنوبية. ليس هذا فقط، بل وفي ضوء هذه التطورات وقع الأوروبيون في مأزق البحث أو وضع تصورات عدة للتعاطي مع ما قد يحدث مستقبلا على غرار أزمة القوقاز.

الأوروبيون من جانبهم درسوا الموقف وبحثوا مقترحات عدة وضعوها جميعها على الطاولة لاختيار الأنسب من بينها، لمواجهة الأزمة التي حقق فيها الدب الروسي انتصاراً سياسياً وعسكرياً ومعنوياً كانت قيادة الكرملين في أشد الحاجة إليه، على خلفية تداول السلطة هناك. فالأوروبيون وعلى عكس الأمريكيين فوجئوا بالأزمة الناشبة خلف ظهورهم، وهي الأزمة التي تسببت فيها الولايات المتحدة بتحريضها الرئيس الجورجي ميخائيل ساكشفيلي (يحمل الجنسية الأمريكية) ووزير دفاعه دافيد كيزراشفيلي (يحمل الجنسية الإسرائيلية) بتجاوز الحدود الجورجية وتقدم قوات الجيش الى إقليم أوستيا الجنوبية المستقل. ولم تكن الخيارات الأوروبية كثيرة، وتركزت ما بين آليتين: الأولى، هي توجيه تهديد مباشر الى روسيا بوقف المفاوضات الجارية بين الطرفين للتوصل الى اتفاق شراكة، والثانية، إعلان فرض عقوبات اقتصادية على موسكو لحملها على التراجع عن استخدام قوتها العسكرية لحسم الأزمة الناشبة في القوقاز عسكرياً لصالحها. ومن المفترض ان تبدأ الجولة الجديدة من مفاوضات الشراكة في منتصف سبتمبر/ايلول الجاري وهي التي انطلقت قبل 11 عاماً تقريباً وتحديداً في عام 1997.

وقد استقر الأوروبيون في القمة المذكورة على اعتماد الخيار الأول وهو إعلان وقف مفاوضات اتفاق الشراكة كسبيل وحيد لتهديد موسكو. ورغم ما يبدو هذا القرار في ظاهرة بأنه ضربة موجهة الى روسيا، الا أن باطنه لا يؤكد ذلك، حيث أراد الأوروبيون وخاصة قاطرتهم (المانيا وفرنسا) اختيار أقل الافتراضات المقترحة قبل القمة كتوصية وحيدة للتعامل مع تداعيات الأزمة. وهذا ما أحبط الولايات المتحدة والتوقعات الجورجية قبل القمة التي ارتأت أن يخرج الاجتماع بقرارات متشددة ضد روسيا، مثل فرض عقوبات ضد موسكو على سبيل المثال.

اذاً، القرار الأوروبي المشار إليه هو قرار معنوي أكثر منه سياسياً، لأن المفاوضات بدأت عام ،1997 ولأن أوروبا لا تريد حرباً باردة أو ساخنة في محيطها القريب أو في قلبها، إنما تريد استقراراً يؤمن تطورها الاقتصادي وبما يهدئ من بعض المشكلات السياسية التي تطرأ على السطح بين الحين والآخر.

لكل هذا، فإن أوروبا ربما تتلاقى مع المطلب الروسي الذي ظهر بقوة في أعقاب أزمة القوقاز، والداعي إلى ضرورة إقامة نظام أمني يضع حداً لمركزية حلف الأطلسي. وهذا في حد ذاته قد يبطل الهيمنة الأمريكية على الحلف الذي يشارك القوات الأمريكية حربها على الإرهاب في أفغانستان وهي حرب فاشلة لم تنجح واشنطن في تحقيق مراميها حتى الآن.

مكسب ثان حققته روسيا في أزمة القوقاز، وهو تصدير رسالة مهمة لأوروبا والمجتمع الدولي بأنه ليس معقولاً أن يدار العالم بالطريقة التي تراها الولايات المتحدة، وهذا ما ذكره وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف.

وثمة نقطة مهمة في مسألة القوقاز، وهي أن أمريكا وأوروبا معاً لا يستطيعان الانفصال عن روسيا وقطع العلاقات معها، وهذا مرجعه ما أثتبته الأزمة من قوة روسية لا يستهان بها. فموسكو تمثل ورقة قوية للغاية لا يستغنى عنها في مسألة الملف النووي الإيراني. أما إذا جاء الدور على النفط، فالحديث سيطول وستكون أوروبا بالتأكيد هي الخاسرة، في ضوء تهديد فلاديمير بوتين رئيس الوزراء الروسي، بأن بلاده تعتزم الاتجاه بنفطها وغازها الى الشرق الأقصى.

ولم تكتف روسيا بتهديدات بوتين، بل دفعت بوزير خارجيتها للرد على تهديدات بريطانيا وتحريضها لأوروبا للبحث عن بدائل للوقود الروسي. فقد ذكر سيرجي لافروف أن التعاون في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية لن يحدث الا في حوار من الند للند، وإلا أخذت روسيا مصالحها في الاعتبار.

الجعبة الروسية لا تنتهي، فهي مثل جراب الحاوي كما يقولون، فتارة تهدد او تلجأ الى وسيلة تسريب التقارير الإعلامية مثل نشر بطاريات صواريخ في سوريا رداً على الدرع الصاروخية الأمريكية. وتارة تهدد بتزويد إيران بأنظمة صاروخية متطورة ما أثار حفيظة وذعر إسرائيل وأمريكا معاً.

إجمالا، فإن روسيا التي توغلت قواتها في الأراضي الجورجية ورغم ان هذا العمل غير مقبول دولياً لأنه انتهاك لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة، لم ترضخ لتهديدات أوروبا وأمريكا، وقللت من أهمية تهديدات أخرى بإخراجها من مجموعة الدول الثماني الكبرى الصناعية، أو فرض عقوبات اقتصادية ضدها. وقد اعتبرت موسكو كل هذا مجرد شائعات. وهذا يؤكد أن حجم المصالح المشتركة بين روسيا وأوروبا أقوى بكثير من طموحات الرئيس الجورجي، خصوصاً أن الأوروبيين يرون في ساكشفيلي الشخص المراوغ الذي انقلب على الديمقراطية في بلاده بعد تبوؤ للسلطة هناك، مثل منح السلطة التنفيذية المزيد من الصلاحيات على حساب البرلمان والحد من الحريات الإعلامية. كما ان أزمة القوقاز برهنت لأوروبا عدم الاستعجال في ضم جورجيا لحلف الأطلسي، وإلا كان على الأوروبيين الإسراع لنجدة دولة عضو بالحلف تعرضت لاعتداءات عسكرية من دولة أخرى عدوة، ما يؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية، الأوروبيون أنفسهم في غنى عنها. وهي مجرد حرب تريدها أمريكا وأشعلتها لقياس قوة روسيا ورد فعلها. وآخر المكاسب الروسية من هذه الحرب انهيار الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في عالم أحادي القطبية بعدما بزغ الدب الروسي واستعاد حيويته وقوته من جديد. وليس أقل من كل هذا، انهيار عصر الآحادية الأمريكية وفشل إقناع الشركاء في حلف الأطلسي بضم جورجيا لعضويته.

* كاتب بحريني

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"