مبارك العقيلي.. ثمانون عاماً من الشعر

جاء إلى دبي فتى فأحبها واستقر فيها
02:33 صباحا
قراءة 4 دقائق
إعداد: محمد ولد محمد سالم

ولد مبارك بن حمد العقيلي عام 1875م بالأحساء من أرض السعودية، وانتقل وهو فتى يافع إلى الإمارات، واستقر في دبي، حتى وفاته عام 1955، توفي والده وهو صغير، فكفل أسرته أحد وجهاء الأحساء، وعندما التحق بالكتاتيب أظهر نبوغا، فكان سريع الحفظ حاد الذكاء، ما جعله يحصل في فترة وجيزة علماً غزيراً وهو لا يزال في حدود العشرين، فكان له باع طويلة في الفقه وعلوم الشرع والشعر والأدب والتاريخ.
كانت الأحساء تحت حكم العثمانيين، وساء العقيلي تجبر ولاتها، وظلمهم للناس، فجهر بمعارضتهم، ما جعله يدخل السجن، لكن الوجيه الذي كان يكفله تدخل عند السلطات العثمانية، فأطلق سراحه، لكنه نفي إلى العراق، فلبث فيها فترة قصيرة في كنف أحد شيوخ القبائل هناك، ثم ارتحل إلى دبي، ومنها إلى سلطنة عمان، وهناك اتصل بالسلطان فيصل بن تركي بن سعيد ومدحه، فقربه السلطان، لكن يبدو أن دبي التي مر بها من قبل، تركت أثراً في نفسه، فعاد إليها واستقر فيها، يتعاطى التجارة ويختلط برجال دبي ومثقفيها، ولما آل حكم الإمارة إلى الشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم، أعجب بشعره فقرّبه وأحسن رعايته، وظل على صلة به حتى توفى، فقربه أبناؤه من بعده ورعوه، وطاب له المقام في دبي، فلم يبرحها حتى قضى.
كان مبارك العقيلي حلو الحديث كثير النوادر في الشعر والفقه وعلوم عصره، فكان يجتمع إليه مثقفو عصره، يسمعون منه ويسمع منهم، فأثر في كثيرين وحفز مواهبهم الشعرية، وكان لسانه منطلقاً بالشعر، يقوله فصيحا ونبطيا على السواء، وقد طرق جميع أغراض الشعر التقليدية من غزل ومدح وفخر ورثاء وحنين، واتسم شعره في الغالب بطابع الحنين والحزن على وحدته وفراقه لأهله، فقد عاش ثمانين عاماً لم يتزوج خلالها، وتقول بعض المصادر التي أرخت لحياته، إنه أحب في بداية شبابه فتاة من منطقته بالأحساء، لكنها تنكرت لحبه بعد أن سجن ونفي، وتزوجت في غيابه فحز ذلك في نفسه، وألزمه حزناً دائماً ونظرة تشاؤمية إلى الحياة، وإحساساً عميقاً بالألم، وجعله يعزف عن الزواج طوال حياته، ومن شعره في الحنين قصيدة «جفا النوم جفن الصب»، وهي من شعره النبطي، وفيها تظهر غزارة مفردات الشاعر وتمرسه باللعب بالمترادفات، فيتفنن في ألوان الجناس، مثل: «عبارات عبراتي اعتبار، عيوني عيون عينت يوم عاينت»، وهو يكثر من هذه النوعية في أشعاره، وكانت البراعة في المحسنات اللغوية والمعنوية في ذلك العصر، علامة قدرة فنية وموهبة تميز من يتقنها وتعطيه مكانة بين الشعراء، يقول العقيلي «من النبطي»:

جفا النوم جفن الصب ما عاد يعتادي

ومن كان مثلي كيف يلتذ برقادي

غريم الحشا والحب في مهجتي نشا

ودمعي وشى بالي أكنيت بفؤادي

عبارات عبراتي اعتبار وعبرتي

بما بر سبيل للتوى في الهوى هادي

وعندما استقر العقيلي في دبي أحبها، وكثر أصدقاؤه بها، وصارت له بمثابة الوطن الذي لا يبغي به بدلاً، وكثيراً ما كان يذكرها في شعره ويتغنى بمآثرها، ومآثر شيوخها وناسها، يقول العقيلي (من الفصيح):

دبي داري حماه الله من ضرر
وجاء بالغيث فيها كل هماع

يكسو المراعي بأشكال الرؤي حللا

تزهو بوشي من الأزهار لماع

مثوي الكرام ومأوي كل ذي شرف

ومستقي كل ملتاع و مرتاع


أما المدح فقد كان أكثر شعره، بسبب كثرة تنقله وعلاقاته بالشيوخ والوجهاء في المناطق التي زارها، والذين كان ينال الحظوة عندهم، وينزلونه أحسن منزل، فكان ذلك يؤثر في نفسه تأثيرا بالغا، فيعبر عن امتنانه لهم بتلك القصائد التي ينسجها بإحكام، ويذكر فيها مآثرهم وكرمهم، وشهامتهم، وقد حظي الشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم شيخ دبي بأكثر تلك المدائح نظرا للمكانة التي أحله فيها، والرعاية التي شمله بها، وكان كثيرا ما يمزج شعره في مدحه بالنصيحة له، وكان الشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم يطلب منه، ويتقبل نصيحته بحفاوة، ومن تقريبه له، أنه كان يأخذه معه في أسفاره وزياراته، التي يقوم بها للمناطق التابعة لإمارته، يقول العقيلي في مدح بطي وقبيلته (من الفصيح):

أهل العلا من ياس حِمْير وقحطان

عاداتهم للدار والجار يحمون
هم قيدوني بالمعزة والاحسان

في دارهم بجوارهم صرت ممنون

الله يقيهم من صروف الأزمان

ويدوم شيخ الكل من هو لنا عون

بطي عميد الفخر من ساد الاقران

بالجود بالموجود واوروده الكون

كان العقيلي كثيراً ينظم الشعر في الحكمة والاعتبار بالدهر، ناصحا بأن على الإنسان العاقل أن يفكر في الدهر، وينظر في أحداث الأيام وتطوراتها، وكيف أنها لا تبقى على حال واحدة، والمغرور من يظن أنها تدوم ويركن إليها، ولا يتهيأ لمواجهة صروفها، وأن الشيء الوحيد الذي تواجه به ويصمد أمامها هو الخلق الحسن والجود والشجاعة، فتلك الأخلاق يبقى ذكرها صامدا، ولو بعد وفات صاحبها، يقول العقيلي (من الفصيح):


عجايب زماني كلها جات بخلافي
فهل يا رجيح العقل تحكم بالأنصافي

تحقق بفكر في المبادي وضدها

فبالفكر والتحقيق يبرز لك الخافي

وكانت لمبارك العقيلي عزة نفس وشهامة، وترفع عن الرذائل، وفيه أنفة عن التذلل والخضوع، وله أشعار في الفخر يذكر فيها تلك الخصال، يقول (من النبطي):


أقول الشعر لكن على غير مطمع
على ما لذاتي من هواها يشوقها

فلا شيمتي ترضى أحابي لمطلب

ولا أستقي الما من هوامي حقوقها

في الجانب السياسي تأثر العقيلي بما كان يقوم به الاحتلال في ربوع الوطن العربي وبشكل خاص مساندة الإنجليز للصهاينة، وسعيهم إلى تهويد فلسطين، وكان الأوساط المثقفة في دبي في ذلك الوقت تتابع الأحداث في فلسطين ومصر، وقد تصاعد الإحساس بالقومية وبالمصير الواحد لديها، فكانت قلبا وقالبا مع فلسطين، ومع تحرر الإنسان العربي من الاستعمار واستقلال بلدانه، يقول العقيلي في قضية فلسطين موجها النداء إلى العرب، داعيا إياهم إلى أن ينتبهوا لما يحاك ضدهم ومحذرا المستعمر من مغبة ما يقوم به (وهي من شعره الفصيح):

أقومي وأنتم للمهمات عدة
فلسطين تهويدها قرر الخصم

لئن نزعت منا فلسطين للعدا

وأصبح فيها للصهاينة الحكم

ألا لا سلام الآن قومي فاحذروا

فقد تكشف الأيام ما ستر الكتم .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"