عادي
الأمم المتحدة تقدر الكُلفة المبدئية والاستثمارات المطلوبة بحوالي 350 مليار دولار

«إعمار» سوريا.. ساحة الحرب العالمية الثالثة

05:20 صباحا
قراءة 14 دقيقة
تحقيق: عبير حسين

اختلفت الشوارع وتعددت المدن، وبقي الدمار وحده هو إطار الصورة والعامل المشترك، الذي يجمع بين مدن عربية عدة أصبحت إما أطلالاً، أو أثراً بعد عين.. اليوم.. وأينما وليت وجهك تصدمك مآلات حلب وحمص والرقة والموصل وغيرها شرقاً، بينما لا تختلف الحال كثيراً عن بنغازي وغيرها غرباً. وحده يقف ركام المباني المهدمة شاهداً على من سكنوها أو عبروا من خلالها. وحده يحفظ ما خلّفه الراحلون وراءهم من ذكريات لمدينة كانت يوماً نابضة بالحياة، تعج بحركة السيارات، وأصوات المارة، وطلبة المدارس، ورواد المقاهي، والجيران وهم يتبادلون الزيارات. دُمرت شوارع لطالما عبقت بأريج الزهور والرياحين وقطرات الندى في ساعات الفجر الأولى. تغيرت أسماء الشوارع والمدن، وبقيت نفس رائحة البارود المشتعل، وأطلال المباني والمستشفيات؛ لتحكي نفس الحكاية باختلاف الشخصيات. وهكذا اختلفت المدن وتشابهت القصص..
سوريا.. كانت ساحة للحرب والنفوذ بين مختلف الدول الإقليمية لمدة 7 سنوات مضت.. ومع اقتراب حل للأزمة يلوح في الأفق، بدأت الدول والمنظمات تستعد وتخطط للدخول في حرب جديدة على الأراضي السورية تحديداً تشبه إلى حد كبير الحرب العالمية «الثالثة» ربما.. والأيام المقبلة ستكشف إلى أين سيأخذ «بيزنس» الإعمار وصفقات الدمار سوريا وشعبها.
دارت رحى معارك حروب القرون الماضية في ساحات القتال الشاسعة، التي تتبارى فيها الجيوش الجرارة المدججة بآلاف الجنود والعتاد الثقيل في مسرح حرب مترامي الأطراف. كانت المدن تتعرض للحصار، أو النهب، أو حتى تقع تحت طائلة القصف الجوي؛ لكنه كان من النادر أن تشهد شوارعها قتالاً بين المتحاربين. أما اليوم فكما أن العالم يتمدن، كذلك أصبحت النزاعات، ففي أغلب النزاعات المسلحة التي يشهدها العالم المعاصر أصبحت مراكز المدن والأحياء السكنية هي ساحات القتال وخطوط المواجهة.
50 مليون شخص يدفعون الكُلفة الباهظة لحروب المدن حول العالم، وتستأثر منطقة الشرق الأوسط بالنصيب الأكبر من الرقم المفزع بحسب أحدث تقارير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وتدفع هذه الحروب أكثر من 3 أشخاص للنزوح ومغادرة مدنهم كل دقيقة تقريباً في سوريا وحدها، ليصل عدد النازحين منذ اندلاع الحرب إلى حوالي 7 ملايين شخص في ملاجئ مؤقتة أو مجتمعات مضيفة داخل سوريا، بينما غادرها أكثر من 5 ملايين سوري في أكبر أزمة لجوء وهجرة شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.

خسائر الحرب

وتحت عنوان: «خسائر الحرب: تحليل الآثار الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا» أصدر البنك الدولي أحدث تقاريره منتصف العام الماضي، الذي رصد بالتحليل الخسائر الهائلة التي تكبدتها سوريا منذ 2011 وحتى مطلع 2017، ليصل الرقم إلى ما يقارب من 226 مليار دولار أي حوالي 4 أضعاف إجمالي الناتج المحلي السوري في 2010؛ حيث ركز التقرير، الذي يعد الأكثر شمولاً مقارنة بعدة تقارير أخرى أصدرتها عدة مراكز بحثية، أو مؤسسات دولية على تحليل الخسائر في 4 مجالات رئيسية وهي: الأضرار في الممتلكات والبنية التحتية، والخسائر في الأرواح وحركة الأفراد، والنتائج الاقتصادية، إضافة إلى الخسائر في التنمية البشرية. خلص التقرير إلى أن الصراع في سوريا ألحق دماراً شديداً بالمدن الرئيسية، التي دُمِرَ أغلبها بشكل كبير، وطالت الأضرار البنى التحتية والمصانع والمحاصيل الزراعية والمناجم، وتوقفت الخدمات الرئيسية، وتحول الاقتصاد السوري من «اقتصاد دولة» إلى «اقتصاد غير رسمي». وأضاف التقرير، أن الأصول السورية خسرت حوالي ثلث المساكن، ونحو نصف المنشآت الطبية والتعليمية، إضافة إلى انهيار الأنظمة، التي تدير الاقتصاد والمجتمع، إلى جانب معاناة 13 مليون سوري من «العوز الغذائي» ويضاف إلى كل ما سبق انعدام ثقة الملايين في المستقبل.

538 ألف وظيفة

الخبير الاقتصادي هارون آوندر المحرر الرئيسي لـ«تقرير البنك الدولي»، قال: «تم تدمير ما يقرب من 538 ألف وظيفة خلال السنوات الأربع الأولى من الصراع، واليوم يعاني 78% من الشباب البطالة. كما أدى الاستهداف المتعمد للمنشآت الصحية إلى تعطيل النظام الصحي بشكل كبير مع عودة الأمراض المعدية إلى الانتشار، ومنها شلل الأطفال. كما يقدر بأن السوريين الذين يموتون بسبب عدم قدرتهم في الحصول على الرعاية الصحية يفوق عدد الوفيات؛ كنتيجة مباشرة للعمليات القتالية، إضافة إلى تعطل النظام التعليمي؛ بسبب الأضرار التي لحقت بالمدارس، التي إما إنها استخدمت كمنشآت عسكرية، أو تلك التي تم قصفها في الغارات الجوية، ونقص الوقود الذي أدى إلى انخفاض إمدادات الكهرباء للمدن الرئيسية إلى ساعتين فقط يومياً».
ساروج كومارجا مدير دائرة المشرق في البنك الدولي، قال: «دفع 400 ألف شخص حياتهم ثمناً للحرب في سوريا، وأجبر أكثر من نصف السكان على الفرار من ديارهم، ما أدى إلى تدهور كبير في الحياة النوعية للمدنيين. وتشير التقديرات إلى أن 6 من بين 10 أشخاص يعيشون في فقر مدقع؛ بسبب الحرب، بينما وصل عدد السوريين غير المنخرطين في أي شكل من أشكال الدراسة أو التدريب إلى 6.1 مليون شخص، وسيؤدي هذا على المدى الطويل إلى خمول في رأس المال البشري، ما يؤدي إلى نقص المهارات على المدى الطويل. أما على المدى القصير فسيؤدي ذلك إلى انضمام كثير من الشباب للمجموعات المتحاربة لمجرد البقاء على قيد الحياة».

النتائج الاقتصادية

يتخذ التقرير خطوات إضافية؛ لإلقاء الضوء على الآليات، التي أثر الصراع من خلالها في النتائج الاقتصادية. ويساعد هذا النهج في إظهار أن اضطرابات النظام الاقتصادي كان لها الأثر الأكبر بكثير من الأضرار المادية، وأنه كلما طال أمد الحرب زادت خطورة عواقبها، ما يزيد من صعوبة التعافي، ويضع عقبات جادة على طريق إعادة الإعمار.
منذ منتصف العام الماضي، بدأ الحديث يتصاعد حول مرحلة إعادة إعمار سوريا، وقدمت عشرات الدراسات والتقارير، التي قدرت الأرقام المبدئية بمبلغ يتراوح من 250 إلى 350 مليار دولار. وبينما خلصت دراسة مركز دمشق للأبحاث والدراسات (مداد) بشأن إعادة إعمار سوريا إلى أن الرقم المتوقع سيصل إلى 195 مليار دولار بحسب التقديرات الحكومية، أعلن ستيفان دي ميستورا المبعوث الأممي للأمم المتحدة خلال جلسة استماع في مجلس الأمن خاصة بسوريا نوفمبر/‏تشرين الثاني الماضي، بأن الكُلفة المبدئية لإعادة أعمار الدمار الهائل الذي لحق بسوريا ستصل إلى 250 مليار دولار.

من يتحمل الفاتورة؟

من يتحمل كُلفة إعادة إعمار سوريا؟ هذا هو التساؤل الأكثر إثارة للجدل والدائر اليوم علناً في أروقة عدة منظمات دولية نقدية أو معنية بالمهام الإنسانية، إضافة إلى مناقشتها عبر عدة دراسات ومقالات بالصحف الأمريكية خاصة «نيويورك تايمز»، التي ترى أن «من دمرها هو من يعيد إعمارها» في تلميح صريح لنظام الأسد. وبينما تراقب المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وصندوق النقد الدولي بحذر تطورات الأوضاع في سوريا قبل الحديث الجاد عن البدء بمشروعات تصل كلفتها إلى المليارات، يرى أعضاء فاعلون في الاتحاد الأوروبي أنه ليس هناك أي مستقبل لإعادة التعمير في ظل بقاء نظام الأسد، بينما تدفع قوى أخرى بثقلها نحو ضخ عشرات الملايين في مشروعات ضخمة؛ لبدء دوران عجلة إعادة الإعمار خاصة سوريا وروسيا وإيران والصين. لتصبح خريطة «إعادة الإعمار» ساحة جديدة للحرب بين النظام في دمشق وإلى جانبه القوى التي أيدته، بينما تقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية العالمية على الجانب الآخر، الذي ينتظر حدوث تغييرات حقيقية في السلطة السورية، وفي نفس الوقت لا يرغبون في حرمان شركاتهم من حصتها في «الكعكة السورية».
تجدر الإشارة بداية إلى أن أطراف المعارضة السورية كانت أول من أثارت مبكراً في عام 2011 فكرة إعادة «هيكلة الاقتصاد السوري، وأطلق في بدايات الحرب السورية أول صندوق لدعم إعادة الإعمار بإدارة بنك إعادة التعمير التابع للحكومة الألمانية وبمشاركة دول«أصدقاء سوريا».
وقد فصلت دراسة بعنوان: «التدافع لإعادة إعمار سوريا بين الفرص والمخاطر» نشرت نهاية العام الماضي، وأعدها الباحثان موريل اسبورغ وخالد يعقوب عويس من المركز الألماني للدراسات الدولية والأمنية «الخريطة الضبابية» لمسألة إعادة الإعمار، مشيرة إلى أن أي حديث عن محاولات إعادة البناء لابد لها وأن تنطلق من الركائز الأربع المتعارف عليها في مثل هذه الحالات، وهي: الأمن والعدالة والمصالحة والرفاه الاجتماعي والاقتصادي والحوكمة، وتساءلت عن مدى توافر هذه الركائز في الحالة السورية. وشككت الدراسة في قدرة«نظام الأسد» على اتخاذ التدابير اللازمة للتعافي المبكر الذي يمهد الأرضية للحديث عن أي تدفقات مالية، أو مشروعات استثمارية، ومنها على سبيل المثال إزالة الألغام، واستعادة البنية التحتية الخاصة بالمياه والرعاية الصحية، إضافة إلى بناء رأس المال البشري. وتساءلت الدراسة، أين هي الأيدي العاملة التي يمكنها تحمل أعباء التعمير في سوريا اليوم، وأغلب قوتها العاملة إما نازحة أو لاجئة؟ حيث هاجرت الأيدي العاملة وما تبقى منها فهي غالباً إما غير مدربة، أو خاضعة للتصنيفات المذهبية، التي ستعد واحدة من أكبر العقبات الجادة لأي محاولة إعادة بناء سورية.
ودلل الباحثان على«واقعية»أزمة التصنيفات المذهبية التي ستتحكم في«أولويات»التعمير بالحديث عن إعلان حكومة دمشق في يوليو/‏تموز الماضي عن تخصيص 8 مليارات ليرة سورية ( الدولار = 500 ليرة)؛ لإعادة إعمار مدينة حمص، وكشفت بعد ذلك المخططات الهندسية التي أعلن عنها عن أن النسبة الأكبر من هذا التمويل خصص لمصلحة المناطق التي تقطنها الأغلبية العلوية والشيعية؛ بعد تهجير العائلات السنية منها.
وطرحت الدراسة سؤالاً حرجاً حول إمكانية الاستعانة بأيدي عاملة من الخارج؟ مشيرة إلى العواقب الكارثية لتلك الخطوة التي سترفع فاتورة إعادة الإعمار بمبالغ باهظة، إضافة إلى تأثيراتها الديموغرافية المحتملة، التي ربما تفجر مشاكل أخرى لا يتحملها المجتمع السوري الهش. بمعنى آخر هل ستعتمد سوريا على عمال أجانب توظفهم الشركات التي ستفوز بعقود إعادة الإعمار؟ أم ستلجأ حكومة دمشق إلى استقدام عمالة أجنبية وافدة؟ ومن أي الدول ستأتي هذه العمالة؟ وهل ستقتصر على الدول التي كانت حلفاء لنظام الأسد في حربه؟ بمعنى أكثر وضوحاً هل العمالة التي سيتم الاستعانة بها ستكون جزءاً من مكافآت دمشق لموسكو وطهران وبكين وغيرهم؟.

«مشروع مارشال جديد»

تناولت دراسة أعدها «مركز كارينجي للشرق الأوسط» بعنوان: «وجهات نظر مقارنة بشأن تحديات إعادة الإعمار في سوريا» التحديات الحقيقية أمام أي تصور مقترح لإعادة الإعمار هناك
قالت الدراسة: تجربة إعادة الإعمار هنا لن تعني إعادة بناء المدن والقرى والأحياء المدمرة، ولا بناء المصانع ودعم الزراعة، وخلق فرص عمل مستدامة. أي لن تعني النهوض بالاقتصاد الوطني كما حدث في مشروع مارشال لإعادة بناء اقتصادات دول أوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. ستضخ أموال إعادة الإعمار ناحية المناطق التي تعد استراتيجية من حيث الموقع الجغرافي والسياحي والموارد، ومن حيث القدرة على استثمارها وجني الأرباح منها. المشاريع التي تم البدء بها تبرهن على ذلك، مثل منطقة عشوائيات «بساتين الرازي» في ضواحي دمشق، التي على الرغم من عدم تعرضها للتدمير، تم إخلاؤها من سكانها الفقراء مع تعويضات مالية رمزية من أجل بناء مجمعات سكنية فاخرة مخصصة للأثرياء.
كذلك هي الحال في مناطق السوق المسقوف وبابا عمرو وجوبر في حمص، إضافة إلى المشاريع الاستثمارية التي تقام في طرطوس وعموم الساحل السوري، كلها مشروعات تدلل على أن الكتل المالية الضخمة التي سترصد لإعادة الإعمار لن تلبي بالفعل حاجات المتضررين من الحرب.

روسيا «الوسيط».. وللصين «نصيب الأسد»

كما كان التدخل العسكري الروسي نقطة تحول رئيسية في الحرب السورية، كذلك سيكون دور روسيا في إعادة الإعمار التي فرضت عليه سيطرتها مبكراً في أهم قطاعاته بتوقيعها عقوداً احتكارية مع نظام الأسد، تصل قيمتها إلى ملياري دولار فيما يتعلق بإنتاج وتوزيع الطاقة كالغاز والكهرباء والمياه ومواد البناء، إضافة إلى التحضير لإنشاء مصرف سوري روسي لتقديم مزيد من التسهيلات الائتمانية بين البلدين.
المحلل السياسي نيل هاور، تتبع فرص الدور الروسي في سوريا بعد الحرب، في تحليل نشرته مجلة «فورين بوليسي» تحت عنوان «للمنتصرين الأنقاض.. تحديات روسيا في إعادة إعمار سوريا»، وقال فيه «ظهر دور روسيا الاقتصادي الأكثر أهمية حتى الآن في اتفاقية بين وزير النفط والغاز السوري، علي غانم، وشركة روسية برعاية وزارة الطاقة الروسية، وتنص الاتفاقية بتقديم سوريا ٢٥٪ من إنتاجها للنفط والغاز إلى شركة «ستروي ترانس غاز» الروسية، التي ستوفر خدمات الدفاع والإنتاج والنقل من الحقول الموجودة في شرقي سوريا إلى الخارج.
كما تشارك شركة «يوروبوليس»، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً برئيس شركة «ستروي ترانس غاز»، يفجيني بريجوجين (حليف بوتين المقرب) وديمتري أوتكين، رئيس شركة «فاجنر»، وهي شركة مقاولات عسكرية خاصة. ومع وجود ما يقدر بنحو ٢٥٠٠ موظف لشركة «فاجنر» في سوريا، من المحتمل أن تقدم الشركة خدمات الحماية الأمنية للآبار التي تديرها شركة «ستروي ترانس غاز» الروسية في وسط سوريا وشرقها.
ولفت هاور الانتباه إلى محاولات روسية التقرب من السنّة السوريين بتولي حكومة الشيشان مهمة إعادة بناء المسجد الأموي الكبير في حلب، وتولي مؤسسة «أحمد قديروف» الشيشانية أيضاً مهمة ترميم مسجد خالد بن الوليد في حمص.
وقبل أيام قليلة أعلن مجلس الأعمال السوري الروسي الذي عقد اجتماعاً في منتجع «سوتشي» عن 20 مشروعاً تنفذه 64 شركة روسية في مجالات تدوير مواد البناء من الأبنية المهدمة، ومعامل قطع غيار السيارات، إضافة إلى مصانع للأخشاب والحديد.
لفت هاور الانتباه إلى المهمة الأصعب التي تواجه روسيا، باعتبارها اللاعب المهيمن في سوريا، وهو إعادة بناء سلطة الدولة الممزقة. إذ لم تنجح موسكو حتى الآن من تحسين الحكم السوري بشكل جدي في المناطق التي تم استردادها، حيث يتطلب ذلك عدداً أكبر من القوات البرية مما هو عليه حالياً. وقد أشار المحللون منذ وقت طويل إلى الانهيار المتزايد لسلطة الدولة، حيث تقع مهام الحكم المحلي وتأمين الأمن على عاتق الميليشيات، التي هي خارج سيطرة الدولة حتى لو كانت حليفتها.
وبالتالي ستواجه روسيا صعوبات كبيرة لجني ثمار جهود عملية إعادة الإعمار، والتي من المحتمل أن تواجه تحديات من قبل الفاعلين المحليين والنخب الذين يبسطون نفوذهم في تلك المناطق. حتى مع وجود عدة آلاف من أفراد الشرطة العسكرية، فمن غير المرجح أن تكون هذه الأعداد كافية لبسط سيطرة موسكو مع وجود فرقاء مستقلين مؤيدين للنظام أو أولئك المدعومين من إيران، الذين يتمتعون بالسيطرة الفعلية على ما يقرب من كامل الأراضي التي تعتبر تحت سيطرة الحكومة السورية.
وبينما تسيطر الشركات الروسية على قطاعات استراتيجية كالنفط والغاز، ركزت الشركات الإيرانية حضورها في قطاعي المقاولات والاتصالات، وبدا هذا واضحاً في نشاط عمليات شرائهم لعقارات بالعاصمة دمشق، وتوقيع عقود حديثة لإعادة إعمار حلب. إضافة إلى سيطرة شركات إيرانية على حقوق إعادة تشغيل شبكات الهواتف المحمولة، الأمر الذي يجلب كثيراً من الأرباح، ويمنحهم ميزة المراقبة. نهاية الشهر الماضي نقلت وكالة أنباء «تسنيم» عن رئيس شركة «خاتم الأنبياء» الذراع الهندسية للحرس الثوري الإيراني العميد عبد الله عبد الله قوله، إن حكومة بلاده وقّعت عقود عدة مشروعات مع حكومة دمشق لاستعادة شبكة الكهرباء والبنية التحتية، ومن المقرر أن تكمل إيران وفنزويلا بناء مصفاة لتكرير البترول في منتصف العام الجاري. يضاف إلى ما سبق احتلال إيران المرتبة الأولى كأكبر شريك تجاري لدمشق خلال العام الماضي.
أما عن الموقف بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فأعلن نهاية إبريل/ نيسان الماضي على أن المشاركة في إعادة إعمار سوريا تتوقف على الانتقال السياسي الشامل والحقيقي في البلاد. ومع ذلك موّلت دول أوروبية برامج الإغاثة وإعادة البناء التي تشرف عليها الأمم المتحدة والتي تعمل بالتعاون مع النظام السوري. ولا تزال هذه البرامج قيد العمل، أو من المقرر أن تبدأ في المناطق التي استقرت فيها الأحوال بشأن النقل القسري للسكان، كما هو الحال في حمص. وانقسمت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بين أولئك الذين اتخذوا موقفاً صارماً إزاء أي محاولة للتعاون مع ما يعتبرونه نظاماً عصياً على الإصلاح، وبين هؤلاء الذين يرغبون في «قبول الأمر الواقع» على أمل تحقيق الاستقرار السريع، أو فتح سوق إعادة الإعمار المربحة أمام شركاتهم ووكالات التنمية لديهم.
وعلى الرغم مما يشاع عن «الترقب» و«الحذر» الأمريكيين فيما يخص الحديث عن مشروعات إعادة الأعمار في سوريا، إلا أن المؤكد عملياً أن الشركات الأمريكية لن تفوت نصيبها في الكعكة مهما كان الموقف الرسمي لبلادها، وأشار بعض المراقبين الدوليين إلى أن الوجود الأمريكي سيظهر جلياً عبر العقود والشراكات التي ستوقعها دمشق مع المؤسسات الدولية المانحة مثل صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي وهما المؤسسات التي تشهد سيطرة أمريكية نافذة على قراراتها. وعليه لا يعني عدم ظهور أسماء أمريكية عملاقة حتى اليوم على خريطة مشروعات إعادة الإعمار السورية، وقوف الولايات المتحدة موقف المتفرج على ما سيحدث هناك، لكنه يعني أن الكواليس تخفي الكثير، ويشير إلى أن المستقبل القريب ربما يكشف عن أسماء الشركات العملاقة، إما الأمريكية الكبرى، أو تلك العابرة للقارات التي تخضع للنفوذ الأمريكي.

حزام واحد.. طريق واحد

يوجينو داكريما، الباحث المشارك في المعهد الإيطالي للدراسات الدولية (إسبي) والأستاذ الزائر بالجامعة الأمريكية في بيروت، قدّم ورقة بحثية بعنوان «للصين حصة الأسد من إعادة إعمار سوريا»، ناقش فيها الحظوظ المتفاوتة لمختلف الأطراف الفاعلة في الحالة السورية، وانتهى إلى أن الظروف الاقتصادية التي تمر بها روسيا وإيران بعد انخفاض أسعار النفط، إضافة إلى الصعوبات الأخرى التي تواجهها طهران من الاحتجاجات الداخلية على تدني مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار والأزمات المستمرة مع الولايات المتحدة بسبب ملفها النووي وسياساتها الإقليمية، لن تمنحهما الكلمة العليا أو «الحصة الكبرى» في كعكة إعادة إعمار سوريا، وهنا يأتي دور «التنين الصيني» المستعد دائماً بفوائض اقتصادية هائلة، وشركات عملاقة، وعمالة رخيصة لاكتساح الساحة السورية.
أشار داكريما إلى الحضور اللافت للشركات الصينية في معرض دمشق الأخير العام الماضي الذي يعد الأكبر من نوعه الذي يطرح مشروعات استثمارية، ويعمل على استقطاب تمويل دولي لها، وقال إن الوفد الصيني الرسمي تعهد بتقديم ملياري دولار لإعادة الإعمار. ولفت الباحث الانتباه إلى طبيعة الدور الذي تلعبه الصين في الأزمة السورية منذ اندلاعها 2011، قائلاً إن بكين لم تتورط في أية معارك قتالية، لكنها ساندت نظام الأسد دبلوماسياً في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأشارت الدراسة إلى تمتع الصين بميزة التقارب مع نظام الأسد وهو ما تفتقر إليه الولايات المتحدة والدول الغربية والمؤسسات المانحة التي تشترط ترتيبات سياسية وأمنية خاصة للمشاركة في عملية إعادة الإعمار، مثل خطط عودة اللاجئين وغيرها.
كما تتمتع الصين بميزة الفوائض الاقتصادية الضخمة، وهو ما يعوز الجانبين الروسي والإيراني. أما أهم الدوافع التي تزيد من حرص الجانب الصيني على المشاركة في إعادة الإعمار فهو موقع سوريا الاستراتيجي الذي يمثّل محطة مهمة على مبادرة «حزام واحد، طريق واحد» الهادفة إلى إحياء طريق الحرير القديم. ومن هنا يتوقع أن تصبح «الصين» صاحبة النفوذ الأقوى في سوريا الفترة القادمة لحجم استثماراتها المالية الضخمة، ومن هنا تثار المخاوف من أن يكون تنامي النفوذ الصيني تحدياً لمصالح إيران وروسيا.
واليوم تعمل الشركات الصينية، وفي مقدمتها شركة «أم دي إف» على تزويد شركات سورية لتجميع سيارات في حماة وحمص. كما تعمل بكين التي سبق لها المساهمة في تطوير مناطق صناعية سورية على بناء منطقة صناعية سورية - صينية، شرقي حمص بتكلفة تصل إلى ملياري دولار.

«الفقراء» يدفعون الفاتورة

مهما كان حجم الرقم الضخم لإعادة إعمار سوريا (250 350 مليار دولار) فإن كل التحليلات والدراسات الاقتصادية اتفقت على أن «الفقراء» هم من سيدفعون فاتورتها الضخمة. وأياً كانت تفاصيل مشروعات إعادة الإعمار، فإن كلفتها ستكون ديوناً، وستوجه كل الثروات الباطنية السورية من أجل تسديدها، وعليه سيتحمل الفقراء العبء الأكبر من شروط التقشف والضرائب التنازلية التي سيفرضها المقترضون.
الباحث كوانتس كيرتس قدم تحليلاً نشرته مجلة «الاستراتيجية» تحت عنوان «نهاية لعبة الحرب في سوريا: الخاسرون والرابحون والطريق إلى الأمام» تحدث فيه عن سياسة «The day after أو» حسابات اليوم التالي «التي تطرح أسئلة مبدئية ومباشرة عن طبيعة مرحلة إعادة الإعمار ومن يحددها؟ بمعنى آخر هل ستعتمد إعادة الإعمار على قرار سياسي من القوة الحاكمة الداخلية» نظام الأسد ومؤيديه، أم ستفرضه قوى خارجية ومؤسسات دولية. فمثلاً قرار إعادة إعمار الاتحاد السوفييتي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية كان قراراً داخلياً في إطار الحصار الذي فرضه عليه النظام الرأسمالي العالمي، وبالتالي اعتمدت على الموارد المادية والبشرية المتاحة داخلياً فقط. على العكس من إعادة إعمار ألمانيا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية .
أشار كيرتس إلى أن القوة الحاكمة (داخلياً أو خارجياً) هي من ستقرر سياسات إعادة الإعمار، والأهداف الوسطى والنهائية لإعادة الإعمار، ووسائله ومصادر تمويله. وعليه تختلف استهدافات إعادة الإعمار باختلاف القوى الحاكمة أو المسيطرة، والفلسفات الاقتصادية والاجتماعية التي تتبناها، كما تختلف باختلاف الظرف التاريخي والجيوستراتيجي، وجميعها عوامل تدفع لأن تكون «إعادة الإعمار السورية» ساحة حرب مقبلة تستعرض فيها كل الأطراف الدولية قوتها المختلفة، إما تلك الهادفة إلى تعزيز سيطرتها اقتصادياً بعد فرض نفوذها العسكري، أو تلك الراغبة في تصفية حساباتها مع نظام دمشق.

تدمر.. تحدي الإعمار

فجع العالم عندما انهالت معاول الجهل تحطم المعالم الأثرية في مدينة «تدمر» لتأتي على النسبة الأكبر من معالمها التي لم يتبق من معبد«بعل» بها إلا أطلال من قوس النصر الشهير، ووقف متسائلاً كيف يمكن إعادة ترميم أهم الممالك السورية القديمة التي نافست حضارتها الإمبراطورية الرومانية القديمة؟ وكيف يمكن استعادة روح الزمان في واحدة من أقدم المدن التاريخية في العالم؟ وهل سيكون الحل في «استنساخ» قوس نصر آخر؟ وحتى إذا نجحت المحاولة فكيف يمكن نقلها لمواقع أخرى أكبر حجماً مثل المسرح والمدرج والساحة العامة والقصور والمدافن الملكية والقلاع التي طالتها كلها فؤوس الحقد والجهل؟
إذا كانت تحديات إعادة إعمار سوريا متشعبة ومعقدة، تبقى إعادة ترميم المواقع الأثرية في كل من «تدمر» وقلعة حلب التاريخية وغيرهما أكثر صعوبة لأنه لا يحتاج فقط لموازنات مالية ضخمة، بل لتخصصات نادرة ومؤهلة تعرف قيمة كل قطعة حجر تتعامل معها، ويبقى التحدي الأصعب في استعادة روح الحضارة وتاريخ الزمن الذي أهدى فيه القدماء للعالم حضارة ثرية نافست روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية في أوج مجدها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"