عادي
هل يشارك العرب مبكراً هذه المرة في صناعة الخرائط؟

العالم.. يتمزق

05:20 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. أحمد فؤاد أنور

وسط مشهد غير مسبوق فيه رئيس أمريكي تم اتهامه هو وصهره بأنه وصل لسدة الحكم بدعم روسي، ودب روسي يسترد عافية دولته بقوة ويمد قدميه في المياه الدافئة بعد عقود من الانزواء، وانسحاب واشنطن من المشهد العسكري في الشرق الأوسط، وموقف متبدل إزاء مصر 30 يونيو، واحتواء وتوظيف روسي لتحركات أردوغان في الجبهة السورية، وفي المقابل تستقل كردستان، ولو نظرياً، ودور إيراني غامض إزاء مخططات التفتيت الداخلي العربي، وضربات إرهابية موجعة في قلب العواصم الأوروبية، وفي خصر الولايات المتحدة، ودعوات انفصالية في إسبانيا، والعالم يحبس أنفاسه وهو يتابع التصعيد المتلاحق بين كوريا الشمالية والغرب وحلفائه.. مشهد معقد يحتاج نظرة متفحصة وتحليلاً يضع في الحسبان دروس التاريخ، ويتوقع سيناريوهات المستقبل حتى لا تداهمنا الأحداث.
في سايكس بيكو الأولى لم يتم تجاهل روسيا، لكنها سرعان ما انشغلت في ملفات داخلية، ومن خلال سياسات جورباتشوف تم إسقاط الاتحاد السوفييتي من الداخل، ويبدو أن موسكو ستكون الرقم الصعب في سايكس بيكو 2، فهي لم تغفر للغرب عودة ضباط المخابرات الروسية من أوروبا الشرقية، وقررت إعادة قوتها الاقتصادية، وترتيب البيت من الداخل ثم خلق تكتلات مشاغبة تعمل وكأنها بروفة لأي صدام كامل، على غرار تقنيات وفرت لحزب الله أن يوجه لطمة قوية لإسرائيل في 2006، وجعلت الصين تتمدد بهدوء لتخترق الغرب اقتصادياً، ناهيك عن تأسيس محطات تلفزيونية موجهة بلغات مختلفة تنقل وجه النظر الروسية، وهجمات إلكترونية من جهات غامضة تشل حركة مؤسسات حيوية في توقيت متزامن، ناهيك عن تجارب صاروخية غير مسبوقة لبيونج يانج.
وفقاً للمؤشرات المتاحة فإنه من الواضح أن سايكس بيكو2 سيعزز المصالح الروسية إلى حد بعيد، وربما يكون قد تم توقيعه سراً عام 2015 مع أول ضربة جوية روسية في سوريا دشنت التدخل العسكري المباشر هناك، ولعل هذا الاتفاق غير المعلن يكون قابلاً للتعديل خلال جولات أخرى من المفاوضات بعد التوافق مع الصين، وبعد انتهاء جولات استعراض القوة بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، لكن من الواضح أن الاتفاق يتيح للرئيس بوتين مد نفوذه ودوائر تأثيره بعد إسقاط السيناريو المفضل للولايات المتحدة تحت إدارة الديمقراطيين بشأن مصر وبشأن ليبيا وسوريا، بالطبع فيما أطلق عليه «الربيع العربي».
وهناك من يرى أن الدب الروسي سيرتب أولوياته في سوريا، ثم يبدأ في عقاب «إسرائيل» على تطاولها المستفز وقت سقوط الاتحاد السوفييتي، ثم تسليحها للتمرد في جورجيا عام 2008، وكذلك دعم أذربيجان حليفة الغرب مؤخراً في مواجهة أرمينيا حليفة موسكو. وربما تكون نقطة الانطلاق نجاح مصر 30 يونيو في تحقيق مصالحة «فلسطينية - فلسطينية» برعاية مصرية، ثم هجوم للسلام مؤسس على خبرات تراكمية للقاهرة، وعلى قدرات عسكرية روسية على بعد كيلو مترات معدودة من الحدود «الإسرائيلية»، وكذلك وجود أكثر من مليون مهاجر من أصل روسي داخل «إسرائيل»، مما دفع «تل أبيب» لاتهام موسكو بأنها من خلال مراكز ثقافية تمارس أنشطة استخباراتية هدفها إعادة شريحة من هؤلاء مرة أخرى لروسيا. مع ملاحظة أن سايكس بيكو1 اعتبر فلسطين شأناً دولياً، وليس منطقة نفوذ بريطانية أو فرنسية خالصة، وهو ما يتيح لروسيا العمل ربما من خلال الرباعية الدولية على اختبار إمكانية إجبار «إسرائيل» على تقديم ما تسميه «تل أبيب» «تنازلات مؤلمة» لصالح الفلسطينيين، في إطار مبدأ «الأرض مقابل السلام»، وربما يكون العامل المحفز على إتمام هذه العملية على طريقة المعادلات الكيميائية هو تخلي أمريكي تدريجي عن حماية «إسرائيل»، الذي يكلف دافع الضرائب، والجيش الأمريكي والمدنيين خسائر فادحة، فضلاً عن الفاتورة الأخلاقية لدعم الاحتلال والسياسات العنصرية، مع ملاحظة أن الرئيس دونالد ترامب فاز دون أصوات يهود الولايات المتحدة، حيث صوت 80% من الجالية اليهودية في الولايات المتحدة لصالح هيلاري كلينتون.
ويمكن القول هنا أنه بالنسبة لمصر ولحقوق الفلسطينيين ولحماية المقدسات إعادة ترتيب الأوراق في الشرق الأوسط لصالح روسيا سيخلق قدراً من التوازن ينجم عنه في الواقع إنهاك لإسرائيل يفتح أبواب السلام الحقيقي بعد تجهيز الرأي العام «الإسرائيلي» لرد الحقوق بجبهة فلسطينية موحدة، وبتأكيد على أن السلام يحقق الأمن، وهي الأجواء التي قد تعيد اليسار «الإسرائيلي» إلى المشهد بشكل يمكنه من مشاركة نتنياهو الحكم، وإبعاد غلاة المتطرفين من أمثال نفتالي بينت وأفيجدور ليبرمان من المعادلة، حيث يقومون بالمزايدة على الليكود ونتانياهو طوال الوقت مستعينين بالمستوطنين المسلحين.
سايكس بيكو مايو/أيار 1916 وزع الأقليات لاستخدامها كذريعة للتفتيت والإلهاء، وما يحدث الآن من اختبار للقوة في أقصى الشرق سيؤثر على الشرق الأوسط أيضا، فالحرب الباردة عادت لتطل برأسها من جديد، وربما تعيد بالفعل الكتلة الشيوعية للحياة، بعد انزواء طال. وما تقوم به من استفزاز بتجارب لأسلحة الدمار الشامل لا يخيف بمفرده، فما يقلق الغرب هو انتعاشة اقتصادية ذكرت دوائر في واشنطن أنها قائمة على إصلاحات حقيقية، وأيضا بيع الأسلحة لشركات معينة. فهل نحن أمام ابتزاز غربي لمصر بحيث يتم إبعادها من المعادلة الدولية، خاصة بعد القرار الأخير بحجب جزء من المعونة الأمريكية، مما يعني ضغوطاً مباشرة على مصر، واستكمالاً لتشويه بدأ في عهد الإدارات الأمريكية الديمقراطية المتعاقبة، مع الوضع في الاعتبار أن لمصر علاقات متميزة حاليا مع الصين، وأن بكين هي العاصمة الأكثر تأثيراً في قرارات كوريا الشمالية، نظراً لأنها المستورد الأول للفحم من بيونج يانج، وكثيراً ما توفر الحماية الدبلوماسية للتحركات الكورية.
وفقاً لمؤشرات عديدة فإن مسارات التعامل مع الملف الكوري الشمالي ستضع النقاط على حروف اتفاق سايكس بيكو الجديد، فبيونج يانج التي تهدد بضرب الساحل الغربي للولايات المتحدة، اخترقت بالفعل ولأكثر من مرة المجال الجوي الياباني، مما دفع طوكيو لإطلاق صفارات الإنذار بشكل دراماتيكي، وفي الوقت ذاته تقع عاصمة كوريا الجنوبية على بعد 80 كم فقط من الحدود مع كوريا الشمالية، مما يعني أنها تعد من الأهداف السهلة عند حدوث أي مواجهة حقيقية شاملة. وعلى هذا فإن توجيه ضربة أمريكية غير قاصمة يعني أن نهاية العالم قد اقتربت بالنسبة لعدة دول في الشرق الأقصى، وانهيار اقتصادي غير مسبوق في أكثر من بورصة مؤثرة، وفقدان أسواق للتصدير والاستيراد من شأنها أن توقع خسائر فادحة بأطراف قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن المشهد.
وإذا عدنا للربط مع الشرق الأوسط سنجد أنه ربما تختفي داعش، كما اختفى بن لادن والزرقاوي وغيرهم من قادة ميليشيات حاربت المسلمين بكل همة، لكن لتظهر من جديد بمسمى مختلف، وفي جميع الأحوال فقد أدت دورها منذ 2014 حين أزالت ركام فاصل بين الحدود السورية والعراقية، في تحرك ميداني ذي دلالة ضد حدود سايكس بيكو. ثم وصلنا إلى محطة إعلان نتائج الاستفتاء على انفصال كردستان عن العراق، دون أن تتحرك إيران أو تركيا بجدية للضغط على الأكراد والمساعي الانفصالية العلنية.
في عام 1917 سرب الثوار في روسيا اتفاق سايكس بيكو للعالم، ويبدو أن ورثة الاتحاد السوفييتي الحالي سيكون لهم دور في عالم يتشكل من جديد، وموازين قوى في غير صالح الولايات المتحدة (وريثة إنجلترا وفرنسا)، إذا ما أفلحت روسيا في إبرام تحالف كامل مع الصين، بحيث يتم السماح للعملاق الأصفر بنفوذ اقتصادي، وربما عسكري أيضا في مناطق بعينها منها إفريقيا.
وإذا كنا قد تضررنا من الحدود الاصطناعية، التي فتتت القومية العربية، فإن المطروح حاليا هو مزيد من التفتيت، وفي مواجهة مصالح متضاربة مطلوب اصطفاف، وتضافر جهود، وقبل كل هذا قراءة متفحصة واعية للمشهد، حتى لا نندفع في مغامرة غير محسوبة أو نفوت فرصة سانحة.

أكاديمي وباحث في العلوم السياسية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"