عادي
"الخليج" تزورهم وترصد تفاصيل حياتهم في 3 معسكرات في جنوب الإقليم (1 - 2)

أهوال معيشية وإنسانية شديدة الصعوبة بين نازحي دارفور

01:09 صباحا
قراءة 9 دقائق

أحزان وآلام عديدة تشتبك في إقليم دارفور في غرب السودان مع تفاصيل سياسية وإقليمية شديدة التعقيد ترتبط بالواقع القبلي، وللنازحين من أهوال التقاتل الأهلي الذي يستمر منذ خمسة أعوام، حكاياتهم وأوجاعهم، حاولت الخليج التقاط الجوهري والإنساني فيها، أنصتت إلى أعداد من هؤلاء في ثلاثة معسكرات يمكثون فيها قرب مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، واستمعت إلى خوفهم المقيم في نفوسهم، وسألت وحاورت غيرهم، موظفين دوليين ومسؤولا حكوميا سودانيا، ووثقت ما وقفت عليه من تفاصيل هناك في حلقتين متتاليتين .

وحده الإحساس بحدّة الأسى الشديد الوطأة، معطوفا على مشاعر غيظ ضاغطة تتملكك، وأنت تستمع في دقائق تستريح فيها في سيارة أجرة متقشفة إلى متحدث يحثّ على وجوب الاهتمام بالمسرح في كل مدينة وبلدة وقرية سودانية، وضرورة الارتفاع بالذائقة الفنية لدى التلاميذ في كل المدارس وفي عموم المجتمع، من خلال تيسير العروض المسرحية وتهيئة أسباب نجاحها واتساع الإقبال عليها . تكاد تُصاب بالخرس، وقد تسربت إليك رغبة بالصراخ، وأنت تنصت عَرَضا إلى هذا الحديث فيما أنت في وسط مخيم ساكلي الجديد للسودانيين النازحين في إقليم دارفور قرب مدينة نيالا في ولاية جنوب دارفور، وقُدّام عينيك فضيحة إنسانية تكتمل فيها شروط التراجيديا المرّة، وكل عناصر دراما الخزي البشري غير منقوصة أبدا .

مناسبة حديث ذلك الرجل في إذاعة سودانية محليّة عن وجوب اعتناء التربويين في بلاده بتأصيل الثقافة المسرحية أن ذلك النهار الذي أنت فيه في معسكر النازحين ذاك هو يوم المسرح العالمي، وهذه مصادفة ربّما يكون فيها شيء من الفكاهة، غير أنك لا تجد لديك قدرة على الضحك، فالذي حواليك، أو الفضاء الذي أنت فيه، أو المكان الذي جئت إليه، مصحوبا بزميلين صحافيين هنديين وزميل سوداني، هو واحد من عدة مخيمات، أو معسكرات حسب تسميتها الشائعة، يتجمع فيها نحو مليوني سوداني هربوا من قراهم وبلداتهم وصحاريهم وبيوتهم ليكونوا في منجاة من الذبح والتقتيل والتمويت والتهجير، يحاولون البقاء على الحياة، في شروط بائسة ولا آدمية، بعيدا ما أمكن عن مرتكبي الهجمات الدمويّة الذين يُغيرون على الناس والبشر في أماكن سكناهم وعيشهم، ينهبونهم ويقتلون من يقتلون منهم ويطردونهم، وقد يحرقون قراهم ويحدث أن يغتصبوا من يغتصبوا من نسائهم . . . . باختصار ينتهكون حقوقهم في الحياة الآمنة . ومن المفارقات أن المعسكرات الثلاث التي زارتها الخليج، وهي سريف وساكلي وساكلي الجديد على مبعدة مسافات قصيرة من مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، والتي تضج بكل تفاصيل الحياة الآمنة والهادئة، في أسواقها وشوارعها، وهي المدينة التي يقطنها نحو مليوني نسمة بين أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون هم عدد سكان الولاية كلها . ولا شيء يؤشر في أثناء التجول في المدينة إلى أن هناك مأساة نزوح فظيعة على مقربة منها، أو على أطرافها على الأصح .

لا يُنصت الصبية السود حول سيارة الأجرة المتواضعة الصفراء إلى الذي يتحدث في الراديو عن المسرح بمناسبة يوم المسرح العالمي، يحدّقون فيك، وبعضهم يبتسمون، حفاوة ومتسخون، ألبستهم شديدة الرثاثة . استمعت إلى ضحايا هاربين كثيرين، وجئت إلى الفيئ في السيارة لتعين نفسك فيكون في وسعك الاستماع إلى آخرين، وكان لك نصيب أن يداهمك ذلك الحديث الإذاعي عن المسرح، وفي خواطرك تجول أفكار أو أوهام، لا فرق، عن مسرح السياسة الدولية، وعن مطارح شقاء الإنسان فيه، الهارب مثلا من ويلات الحروب والصراعات الأهلية العديدة في غير مكان في العالم، ومنها في دارفور هنا في غرب السودان، حيث الصراع القبلي والسياسي بات شهيرا، وتحتدم جولاته العنيفة منذ أزيد من خمس سنوات، ولا أحد حتى الآن يجزم عدد الضحايا الذين قضوا في أثنائه، ولا عدد النازحين جراءه، وأنت بين مئات منهم، ولا عدد اللواتي اغتصبن، ولا عدد الذين أصيبوا وأعيقوا .

النجاة بطفل واحتراق آخر

ينطق المشهد حواليك بفظاعة ما يحدث أن يتوطن في النفس البشرية من شهوة للعنف وميل إلى ارتكاب الفظاعات واستسهال للقتل . الأجدى هو التأمل والتملّي طويلا في طرائق تدبير هؤلاء النازحين طرائق عيشهم في هذا البؤس القاتم، وهم الهاربون إلى هنا من أهوال أكثر من جحيم في غير ناحية وقرية وبلدة وصحراء ومنطقة في إقليم دارفور الذي يفيدك أي أرشيف بأن سكانه نحو ستة ملايين نسمة، وأن مساحته بولاياته الثلاث تمتد على 510 آلاف كيلومتر مربع .

تقول سكينة إنها نازحة من أجارا، هربت بعد أن حرق الجنجويد الخيمة التي كانت تؤويها وزوجها وتوائمها الاثنين وبناتها الثلاث، وهي التي كانت قد تزوجت لمّا كان عمرها 12 عاما . تقول إن الجُناة نهبوا كل الحاجات والبقرات العشر التي كانت لديها، وإنها تمكنت من انتشال أحد ولديها التوأمين لمّا حرق أولئك المأوى، وبقي ولد آخر ومات محترقا . تقول إن الذين فعلوا ذلك هم الجنجويد، وتسألها عن الذي يؤكد لها هذا الأمر، فتقول إنهم كانوا على جيادهم ومسلّحين وملثّمين . وكما غيرها ممن تم التحدث إليهم من هؤلاء المهجرين في المكان، لا تجيب عما إذا كانت متيقنة من أن هؤلاء عرب أم لا، وإن كانت كما غيرها أيضا تميل إلى أنهم كذلك . والجنجويد، على ما يلزم التذكير هو وصف استخدم في الماضي للصوص الذين كانوا يعتدون على سكان الأرياف، وخصوصا لسرقة المواشي وقطع الطرق، غير أن المصطلح صار في أثناء الصراعات القبلية في التسعينات يستخدم للإشارة إلى ميليشيات من قبائل عربية، في الغالب، تُهاجم وتُدمر قرى القبائل غير الرحل .

تتألف مفردة جنجاويد من ثلاثة مقاطع هي: جن بمعنى رجل، وجاو أو جي ويقصد بها أن هذا الرجل يحمل مدفعا رشاشا من نوع جيم 3 المنتشر في دارفور بكثرة، وويد ومعناها الجواد، ومعنى الكلمة هو الرجل الذي يركب جوادا ويحمل مدفعا رشاشا . وغالبا ما يلبس هؤلاء ثيابا بيضاء، كما أهل السودان، ويركبون الخيل، ويهاجمون السكان والمتمردين .

غارة في الرابعة فجرا

ليست سكينة وحدها من النازحين هنا في مخيم ساكلي التي تتحدث عن الجنجويد الذين أحرقوا بيتها وولدها، فقد قالت لالخليج حنان آدم حسن أن هؤلاء أيضا هم من قتلوا في قريتها 38 شابا، وأحرقوا بالنار تسعة عجائز كانوا في مسجد، في الرابعة فجرا في أحد أيام يناير/ كانون ثاني 2004 . نسألها السؤال نفسه عن سبب تأكدها من أن الجنجويد تحديدا هم من فعلوا ذلك، فتؤشر إلى أنهم كانوا على الخيول والجمال ومسلحين وملثمين، وأنها لا تعرف سببا لاقترافهم هذه الجريمة . وتروي أنها في أثناء النزوح من قريتها إلى معسكر كلما واستغرق نحو شهرين وضعت حملها، وبقيت مع أطفالها وأسرتها في ذلك المعسكر الذي يُعد من أكبر مخيمات النزوح في ولايات إقليم دارفور الثلاث حتى ،2007 وهجرته مع آلاف آخرين إلى ساكلي بعد أن اشتعلت اشتباكات عنيفة فيه، بين مجموعات فيه تحاربت من دون أن تعرف حنان السبب، وتقول إن ناسا ضربوهم بالسلاح، وهنا في ساكلي لا شيء يتوفر لدى أسرتها ولا خدمات صحية، ولا علاجات . وقد عاينت الخليج في جولتها في المعسكر أن عيادة يمكن بكثير من التحوط والحذر تسميتها مستشفى، وتتبع أطباء بلا حدود مغلقة، وأفادنا حارس نازح بأن أطباء هولنديين يداومون فيها، وأنها تغلق ثلاثة أيام في الأسبوع، فيما تباشر عيادة أخرى تتبع منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة العمل في الأيام الثلاثة الأخرى . وبالمصادفة، قال لنا شاب إنه يعمل ممرضا هنا، واصطحبنا إلى ما سماها عيادة، وهي خيمة صغيرة جدا مهترئة بالغة البؤس، لا شيء فيها يدل على أنها مكان لمداواة وإسعاف مرضى، وكانت سحلية كبيرة تمر فيها وتجول على جدار قماش الخيمة المتهالك، ما جعلنا نسرع في مغادرتها .

الجنجويد فقط لا غير

ليست حنان وحدها التي هربت من كلما إلى هنا، فقد أفادنا بعض من هنا أن سبعة آلاف أسرة غادرته إلى ساكلي الجديد، أي إلى حيث الوضع المعيشي صعب جدا، بحسب ما يلحّ النازحون الذين تحدثوا إلينا على وصفه، ما جعلنا نخمّن أن الوضع في كلما أحسن وأيسر بعض الشيء، وما جعلنا أيضا نخمّن أنه ليست هناك مبالغات كبيرة في قول زملاء سودانيين كانوا في صحبتنا منتدبين من وزارة الإعلام أن معسكرات للنازحين في ولاية شمال دارفور، وتحديدا في الفاشر وحواليها، تنعم بخدمات وفيرة، ويتمتع المقيمون فيها بتغذية جيّدة وتتيسر لهم خدمات صحية معقولة، بل إن لحوما تباع فيها، كما أن بقالات تنتعش فيها، أما عن الهواتف المتحركة فيها فذلك من عادي الأمور . لا نلحظ في ساكلي شيئا من هذا أو قليلا منه أبدا، ثمة حال شديد الشناعة، ومهول في فداحة أوضاعه غير الإنسانية .

ولأن هذه الحقيقة هي ما تحتل ذهن المتجول في هذا المكان الذي يجيد المقيمون فيه ويحرصون على توصيف شدة السوء فيه، فإن السؤال الذي يبقى في خواطرنا نحن الصحافيين الزائرين العابرين لساعات عن حقيقة مرتكبي جرائم القتل والتهجير والتمويت الفظيعة، وأحدثت هذه المأساة الإنسانية . لا أحد تستمع إليه من هؤلاء النازحين يتحدث عن غير الجنجويد، فيما كثيرون من زملائنا السودانيين يقولون لنا إن كلام هؤلاء يدلّ على جهلهم، لأنه ليس في وسعهم أن يؤكدوا ذلك، فضلا عن أن المفردة هذه، والتي صارت فلكلورية وكاريكاتورية من فرط استخدامها واستثمارها أيضا، تطلق على كل قاطع طريق وسارق مسلح ملثم، ويغير على أي شاحنة عابرة في طريق طويل في ليل بهيم أو في أي وقت، وكذلك على الذين يقترفون الاعتداءات الفظيعة على الناس في قراهم وبلداتهم في إقليم دارفور، وقد يكونون من قبائل عربية أو إفريقية، كما أن عربا في خيامهم وبيوتهم التي من طين أو قش قد يهاجمهم وينهبهم مسلحون ملثمون عرب أيضا . وموجز هذا الحال أن لا أحد يمكن أن ينسب الاعتداءات وبشكل حاسم ومؤكد إلى القبائل العربية ضد غير العربية فقط، ففي هذا الاقتناع، وإن كان فيه شيء من الصحة، كثير من عدم الدقة والتشوش .

ثعبان يلتهم يد طفل

كان لافتا لنا أن عبد الرحمن لم يحسم لنا شيئا بشأن مسؤولية الجنجويد وغيرهم في التسبب بإعاقته التي شاهدناها، حيث يجلس في ما لا يجوز تسميتها خيمة، إذ هي غطاء مرفوع على عصي وجوانبه من الكرتون، وفي حزن وأسى شديدين، يروي لنا أن قاتلين قطعوا رجله برصاص مسدس، وهو لا يعرف من أين جاءوا إلى قريته القريبة من ساكلي . ويروي أن مجموعة من الناس ساعدته في حينه، ونقلته إلى الشرطة ثم إلى مستشفى تركي، (وهذه معلومة ثمينة أن نعرف أن مستشفى أقامه الأتراك في هذه القفار)، وأعطي فيه رافعات تعينه على المشي، غير أنها أتعبت أضلاعه . وإذا كان الجنجويد، بوصفهم الشائع عربا، بريئين من إعاقة هذا الرجل بقطع رجله، فإن ثعبانا هو من قطع يد طفل حرص إخوة له ورفقاء له في الشقاء أن نراه، قالوا إن الثعبان فعلها في أثناء نزوح الطفل ذي السنوات الخمس (على الأكثر) مع أهله من قرية المهاجرية، وفي الطريق إلى هنا، حيث كان ينام على الرمل، ولم يكن طبعا غير الرمل ينام عليه .

ينتشر الأولاد الصغار، وكثيرون منهم حُفاة، تحت شمس المعسكر، يلعبون ويلهون، ثيابهم متسخة، وعلمنا أن منهم من يغادر إلى نيالا وأطرافها ليعمل في ما يقدر عليه، ليكون في وسعه شراء حذاء مثلا، ليتدبر فلوسا، وبعضهم يجر عربات بالحمير، فيما النساء يمشين مسافات، لجلب الحطب أو جلب الماء . الصغار والأطفال هنا يتزايدون، طالما أن عمليات إنجاب تتم، وهذا عثمان من الذين يمكثون في ساكلي لديه 18 ولدا من زوجتين، بعضهم يرتمي في التي لا حرج في تسميتها خيمة طالما أنها تيسر بعض الظل، وآخرون يتشمسون، وعدد ثالث يقول لنا والدهم إنهم راحوا إلى المدينة للعثور على أي عمل . أمازح زميلا سودانيا وأقول له إن هذا الرجل مطمئن إلى مسؤولية يونيسيف عن أطفاله ومنظمات الإغاثة عن إطعامه وإطعامهم، وربما مطمئن إلى مسؤولية المجتمع الدولي عن حياته ومصيره، وكان مدهشا أنه عند سؤاله عن الذين تسببوا بنزوحه حسم قائلا إنهم العرب الجنجويد، ولما طلبنا منه تأكيد ذلك، سخر من سؤالنا، وبعد شيء من الصمت قال لنا إن السودان بلد إفريقي أصلا .

الولادات مستمرة

لم تكترث خديجة إسماعيل لمثل هذه الأسئلة لدينا، كانت متعبة وهي تروي حكاية نزوحها الأليم، وهي تتحدث عن ولادتها طفلتها التي في حضنها قبل 12 يوما فقط، بعد معاناة قاسية، وتشكو من قلة الخدمات الصحية في المعسكر، وتخبرنا أن الممرضين في عيادة منظمة الصحة العالمية في المعسكر هم من أشرفوا على ولادتها طفلتها . . . . ثمّة إذن وقت كثير هنا ليناجي الأزواج زوجاتهم، ويجامعونهن في الظروف الشديدة الشناعة كما سبق التوصيف، في الخيام الرثّة البالغة الاهتراء والهشاشة، لا أسرة في كثير منها، وإن تيسرت بطاطين متسخة، تعين على مغالبة البؤس الكثير . وتلك تسابيح ولدت أيضا طفلة في هذا المعسكر قبل أربعة شهور، فصار لديها ثمانية أولاد، زيد عليهم أربعة يتامى توفيت أمهم، وتتولى هي رعايتهم ما أمكن لها أن تقوم بالرعاية، تقول إن بعض اولادها يدرسون في الروضة وآخرون ينتطمون في مدرسة، تتمنى لطفلتها الجديدة أن تصير طبيبة عندما تكبر، نتمنى لها ذلك نحن زائريها، قبل أن نغادر سكالي، وقد اقترب المساء الذي انتصف نهارنا فيه بالاستماع إلى احتفاء بالمسرح في يومه العالمي من إذاعة سودانية محلية في سيارة متعبة، وكم يكون جديدا لو يبادر مسرحيون جديون إلى القدوم إلى هنا، ليستمعوا إلى مآسي نزوح وقتل وتمويت ونهب وطرد كثيرة، سينجزون من صنوف الملهاة والتراجيديا الكثير، وهنا دعوة لبعضهم أن يفعلها، ولو من باب التجريب ليس إلا . . . . . وللحديث صلة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"