عادي

روسيا بين الاحترام والقطبية ... 3-4

04:35 صباحا
قراءة 14 دقيقة

هل تبحث روسيا عن نفسها الآن؟ وهل هزّت رأسها بالفعل لكي تستفيق على وضعها الحالي بالمقارنة مع ماضيها التليد عندما كانت كاترينا وبطرس الأكبر، وعندما كان الاتحاد السوفييتي يهز عصاه في موسكو فيقف العالم؟ هل يبحث الروس قيادة وشعباً عن مكان لهم في هذا العالم، أم عن مكانة مرّغها الضعف والفقر في التراب؟ يقول مراقبون ومحللون إن الدب الروسي قد ملّ البرد، ويريد الاستدفاء بمناطق أخرى في العالم، أو ربما كره الاستضعاف فيبحث عن وسيلة لإمضاء أنيابه .

موسكو شعرت بالإهانة من تمدد الاتحاد الأوروبي و"الأطلسي" و"الدرع" الأمريكية

يقول ميدفيديف في مقال له نشرته صحيفة واشنطن بوست الأمريكية بتاريخ 31 مارس/ آذار 2009 مخاطبا الولايات المتحدة إن التفكير في توفير الأمن بطريقة أحادية عبارة عن وهم خطير . وقال إن أمريكا وروسيا لا تتحملان تباعدا في العلاقات، وإن على الدولتين بناء الثقة المتبادلة، وعلى أساس المساواة والفائدة المتبادلة، والمصالح المتبادلة . وقال إنه على استعداد للعمل مع الرئيس أوباما بناء على هذه المبادئ .

وحول الأزمة المالية العالمية قال إن روسيا مستعدة للتعاون من أجل إيجاد نظام عالمي يقوم على تنوع العملات، ويقوم على انضباط بحيث تعرف كل دولة مسؤولياتها . وقال إن روسيا على استعداد للعمل من أجل عملة عالمية ترعاها مؤسسة نقدية عالمية .

وهنا ساوى نفسه مع الولايات المتحدة عندما قال إن روسيا وأمريكا تتحملان مسؤولية تجاه العالم بخاصة فيما يتعلق بالاستقرار الاستراتيجي والأمن النووي . والعلاقات الروسية الأمريكية تحدد إلى حد كبير السياسات عبر الأطلسي بحيث تشكل روسيا وأمريكا والاتحاد الأوروبي العمود الفقري لهذه السياسة . (Dmitry Medvedev, Building Russian-US Bonds) .

واضح أن حديث الرئيس الروسي هذا هو حديث دبلوماسي ومن الصعب أن يبنى عليه استنتاجات حول ما تعمل روسيا على تحقيقه . لقد حمل الرئيس روسيا مسؤولية دولية جنبا إلى جنب الولايات المتحدة، ولمس على قضايا حساسة ومهمة تهم العالم وعلى رأسها الأزمة المالية والأمن النووي، لكن هذا لا يعطي انطباعا قاطعا فيما إذا كانت روسيا ستزاحم الولايات المتحدة، أو أنها قادرة على القيام بهذا الدور .

سبق للرئيس الروسي أن قدم اقتراحا وذلك في تموز/ يوليو 2008 جاء فيه بأن الأمن العالمي يجب أن يكون على عاتق روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأنه يجب عدم الاستفراد بهذا الأمن من قبل الولايات المتحدة، وقد اعتمد في ذلك على قوة روسيا الصاعدة غالبا بسبب الدخل المالي الذي بدأت تحققه روسيا من ارتفاع أسعار النفط . وأضاف بأنه يجب مراجعة الترتيبات على المستوى العالمي، وروسيا لن تشارك فقط في تنفيذ برامج على مستوى عالمي وإنما ستشارك في صياغة هذه البرامج . أما وزير الخارجية لافروف فدعا الأوروبيين والأمريكيين إلى التوقف عن الجدل بشأن قضايا هامشية مثل توسيع حلف الأطلسي واستقطاب دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى حلف الأطلسي، وإلى العمل لمواجهة التحديات الكبيرة على المستوى العالمي مثل تفشي المجاعة، ومكافحة الأمراض المعدية . (E . William Engdahl, Russia,s Medvedev Makes Bold Proposal For a New Security Agenda) .في هذه الدعوة ما يشير إلى أن روسيا تعتبر الدعوات الخاصة بتوسيع حلف الأطلسي شرقا مسألة هامشية ومن السهل معالجتها بالنسبة لروسيا، وإلى أن هموم العالم أوسع بكثير من اهتمامات حلف الأطلسي .

ماذا تريد روسيا؟ هل هي تبحث عن مكان لها في هذا العالم؟ أم أنها تبحث عن احترام قد كسبته أيام الاتحاد السوفييتي؟ أم أنها تريد بناء قواها بحيث تصبح قطبا عالميا جديدا ينافس الولايات المتحدة؟ ووفق ما ترمي روسيا إلى تحقيقه يستطيع المتتبع أن يتوقع السياسات الروسية التي يمكن انتهاجها على مختلف المستويات . إذا كانت روسيا تبحث عن احترام قد ضاع، فإنه من المتوقع أن تتبع سياسة عدم المواجهة وإنما سياسة تأكيد الذات، وهي سياسة غير مكلفة ولا تقود إلى سباق تسلح أو حشد قوات؛ وإذا كانت تبغي القطبية فإنه من المتوقع أن تكون لديها رؤية حول كيفية إدارة العالم، وأن يكون لها حلفاء يعملون معا لمواجهة القطب الآخر، وهذا عمل مكلف ينذر بالكثير من التوتر على الساحة الدولية ويؤشر إلى سباق تسلح واستنزاف مالي .

يقول أحد المحللين إن قادة الروس لا يتحدثون حول ضرورة نهوض روسيا كدولة عظمى، وإنما يتحدثون عن إمكانياتهم ليكونوا مؤثرين في الوضع الدولي، وذلك لأنهم لا يريدون استخدام مصطلحات الحرب الباردة، ولا يريدون العودة إليها . فهم يتحدثون عن إمكانيات روسيا الضخمة خاصة في مجال إنتاج مصادر الطاقة، وعن المواد الخام الهائلة التي يملكونها، Russia Claim (Sergei Kortunov, Should

Great Power Status)وذلك للتدليل على مكانتهم المتميزة وقدرتهم على التأثير في السياسة العالمية . أي أن هذا المحلل لا يرى بأن روسيا تسعى لاستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، وإنما تبحث عن مكان قيادي لها في هذا العالم .

لكن فريدمان يرى بأن الروس جادون في صنع تحالف في مواجهة الولايات المتحدة، وأن إقامته حتمية في ضوء الخلل القائم في ميزان القوى العالمي . الشرق الأوسط هو أفضل المناطق لتوجيه ضغط روسي على أمريكا . أمريكا متورطة في العراق وأفغانستان، لها مشاكل مع إيران، تعتمد كثيرا على مصادر الطاقة في المنطقة، والصراع العربي الإسرائيلي ما زال قائما، وعدد من دول المنطقة تبحث عن دولة عظمى تستظل بظلها . بإمكان روسيا أن تجعل من الشرق الأوسط بداية لإيلام الولايات المتحدة أو لمنافستها بقوة.

(George Friedman, Russia) (Great Power Strategy) لكنه لا يقدم أدلة واضحة على هذه الجدية، ولم يذكر الإمكانيات التي يمكن أن يستند إليها الروس .

من ناحية أخرى، يقول كاتب آخر إن إنتاجية روسيا ضعيفة نسبيا على المستوى العالمي، وهي مصنفة رقم 47 من ناحية الناتج المحلي الإجمالي، على الرغم من أنها عضو في الثمانية الكبار وعلى الرغم من ارتفاع أسعار النفط والغاز، روسيا ما زالت تعاني من مشاكل اقتصادية، وهي تواجه أيضا مشاكل جيو-سياسية، واقتصادو-سياسية بسبب محاصرة الولايات المتحدة والغرب لها من عدة جوانب جغرافية، وربط عدد من الدول المحيطة بها بالاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي . وهي تعاني من مشكلة الانتقال من ترتيب اقتصادي-اجتماعي ساد إبان حقبة الاتحاد السوفييتي إلى ترتيب جديد يتناسب مع النهج الديمقراطي والرأسمالي الذي تتبعه .

(Sergei Kortunov, Should Russia Claim great Power Status) أي أن الكاتب يستبعد أن تصبح روسيا دولة عظمى أو أن تزاحم على القطبية في ظل الإمكانيات المتوفرة لديها الآن .

إنما بغض النظر عن التعبيرات التي يستعملونها، هل لدى روسيا إمكانية لكي تكون دولة عظمى أم لا؟ بخاصة أن الشعب الروسي ما زال يعيش تحت وطأة انهيار الاتحاد السوفييتي وفقدانهم لمكانتهم وهيبتهم الدولية . يبدو أن غالبية الروس والنخب السياسية تود أن ترى روسيا قوية ومحترمة على المستوى العالمي، وبعضهم يرى ضرورة استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي، وبعضهم الآخر يريد روسيا محترمة لكن شريطة ألا يمس ذلك بمستوى المعيشة لديهم . ويرى الكثير من الروس أن قصف يوغوسلافيا واحتلال العراق وأفغانستان، وضم العديد من دول شرق أوروبا إلى حلف الأطلسي واقتراب الحلف من الحدود الروسية، الخ من الإجراءات والسياسات الغربية عبارة عن إهانة للروس، وأن الاحترم لا يتأتى إلا بالقوة الاقتصادية والعسكرية، وأن الضعف الاقتصادي والعسكري يؤديان إلى خسران الاستقلالية . ((George Friedman, Russia (Great Power Strategy)

العظمى والقطبية والمحترمة

قبل الاسترسال، أرى ضرورة توضيح الفرق بين الدولة العظمى والدولة القطبية والدولة المحترمة . من الصعب تحديد ما هي الدولة العظمى، لكنه من الممكن الحديث عن مقومات لا بد من توفرها لكي تكون الدولة عظمى: المساحة الجغرافية وعدد السكان؛ الموارد الاقتصادية والقدرة على استغلالها؛ الاستقرار السياسي وشعور الناس بالعدل والاطمئنان؛ القدرة العلمية والتقنية؛ القدرة العسكرية، والقدرة في النهاية على التأثير في السياسة العالمية، والمساهمة في البحث عن حلول للمشاكل العالمية، والمساهمة في السلم العالمي والتقدم الحضاري والإنساني .

وعندما نتحدث عن القطبية نعني أن الدولة عظمى، ولكنها راغبة في أو قادرة على تحدي القطب أو الأقطاب الأخرى وفرض سياساتها أو رؤيتها ولو جزئيا فيما يتعلق بنزاعات إقليمية، أو قرارات دولية، أو كبح جماح الأطراف الأخرى والحد من سيطرتها وهيمنتها على العالم إلى حد كبير . القطبية تعني القدرة على الاستقطاب، وتكوين مركز قوة له أفلاك ومؤيدون ومؤمنون بما يطرح، وهي تتضمن طاقات عسكرية واقتصادية رادعة وكافية للاستمرار في التحدي . وهنا يجب التمييز بين القطبية العالمية والقطبية الإقليمية من حيث أن القطبية العالمية تعني القدرة على الاستقطاب والتأثير في مختلف أنحاء العالم، بينما القطبية الإقليمية محصورة في إقليم معين مثل شرق آسيا أو أمريكا اللاتينية أو المنطقة العربية الإسلامية . إسرائيل مثلا عبارة عن قطب إقليمي، وكذلك كوريا الشمالية وجمهورية جنوب إفريقيا . من الممكن ردع القطب الإقليمي من قبل قوى أخرى، لكن القطب العالمي لا يردعه إلا قطب عالمي آخر، أو مجموعة دول قوية . أما الدولة المحترمة التي تكتفي بحماية ذاتها وحماية سيادتها ولديها إمكانيات وقدرات لا تسمح للآخرين بتجاوز مصالحها واهتماماتها أو التطاول عليها . إنها دولة ذات قدرة عالية على الاعتماد على نفسها في مختلف المجالات دون أن تعزل نفسها عن العالم، ومتطورة علميا وتقنيا، وتملك قدرة على الردع العسكري . لكن مثل هذه الدولة لا أطماع لديها خارج حدودها، وإنما تحرص على مصالحها .

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، روسيا عانت الكثير وفقدت المكانة التي تمتع بها الاتحاد السوفييتي . روسيا فقدت قطبية السوفييت، وفقدت احترامها على الساحة الدولية إلى درجة حصول حرب على حدودها وضد أعز أصدقائها في صربيا ولم تستطع تحريك ساكن . لقد أهينت روسيا كثيرا على الرغم من أنها بقيت تملك أكبر مخزون من الأسلحة النووية في العالم، وتعرضت لسياسة أطلسية أمريكية من أجل تجريدها من طاقاتها التي تؤهلها للعودة إلى المسرح العالمي . الرئيس يالتسين لم يكترث كثيرا بمستقبل بلاده، لكن فلاديمير بوتين أخذ يعمل نحو إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وما زالت عجلة الخروج من القبو دائرة حتى الآن .

روسيا تملك مقومات لتكون دولة عظمى من حيث: أهميتها السياسية وهي دولة عضو دائم في مجلس الأمن، وقدرتها الفكرية والعلمية، وتأثيرها في الشؤون العالمية، موقعها الجغرافي ومساحتها الجغرافية الشاسعة، والمواد الخام التي تملكها بخاصة مصادر الطاقة مثل النفط والغاز، وقدرتها النووية، وهي بالتأكيد دولة عظمى نوويا وتستطيع تقطيع أوصال الولايات المتحدة، وطاقة أبنائها وقدرتها على العمل، وطاقتها العلمية التقنية الظاهرة والكامنة . وروسيا لديها عدد هائل من العلماء في مختلف المجالات، والفنيين والاختصاصيين، وهي دولة صناعية ودخلت جزئيا في مرحلة ما بعد الصناعة . هنا أناقش مسألتين تشكلان أساسا قويا لقدرة روسيا وهما عنصر الطاقة والقوة العسكرية .

عنصر الطاقة

روسيا واعية لحجم مواردها في مجال الطاقة بخاصة النفط والغاز إذ هي أكبر منتج للغاز في العالم وتزاحم السعودية في إنتاج النفط، وهي تدرك أن حاجة العالم للطاقة ترتفع باستمرار، وأن عملية تطوير مصادر طاقة بديلة متعثرة أو باهظة التكاليف . النفط والغاز عبارة عن موردين أساسيين لروسيا وبدون الإيرادات المترتبة على تصديرهما يصعب على الميزانية الروسية أن تنضبط أو تستقر . ووفق الإحصائيات، حوالي 65% من صادرات روسيا نفطية، وتشكل هذه 25% من الناتج المحلي الإجمالي .

Energy-Rich Russia Moves to Become World (LeighAnne Manwarren,

Power Again) هذه نسبة عالية جدا، ومثلما تشكل ميزة جيدة تشكل خطورة . إنها ميزة لأنها تأتي بالدخل، وخطيرة لأن توقف التصدير لسبب أو لآخر سيؤدي إلى حالة عدم استقرار سياسي واقتصادي في البلاد .

وعي الرئيس الروسي لقوة روسيا في الطاقة، ورأى عدم الكفاءة في الإنتاج والتصدير والفساد الذي يحيط بإدارة الثروة، وما ينجم عن ذلك من أضرار . لقد بغى أباطرة المال، وعاثوا في القطاع النفطي الفساد وجمعوا ثروات شخصية هائلة . ولهذا عمل بوتين على زيادة سيطرة الدولة على مصادر الطاقة، أو تكثيف الرقابة عليها . واستفادت روسيا من ارتفاع أسعار النفط، واستطاعت أن تحقق دخلا يقارب 150 مليار دولار عام 2006 ارتفعت نسبة النمو الاقتصادي فيها لتصل إلى 6% سنويا .

.(Simon Hooper, Russia: a Super Power Rises Again)

يقول أحد المحللين إن الحكمة القديمة تقول إن روسيا قوية بسبب مواردها الضخمة . هي تملك الغاز وتصدر النفط . ويقول إن بوتين خطط لإعادة روسيا لتكون قوة عظمى . ومنذ عام ،2003 وضعت روسيا استراتيجية استخدام مواردها في الطاقة لتحقيق أهداف سياسية، وأن دور روسيا في عالم الطاقة يجب أن يتقوى . وقال بوتين إن قطاع الطاقة يجب أن يكون موجها من قبل الحكومة ويجب استعماله لتحقيق مصالح روسيا . ومدير المناجم الروسي قال إن العالم يجد تحت الظروف الحالية بأن أهم المصادر الطبيعية هي الهايدرو كربونات، وهي بيد روسيا .

قدرت روسيا بأن أسعار الغاز الذي تصدره للدول الأوروبية منخفضة، وأن من مصالحها القومية العدول عن اتفاقات سابقة وتعديل الأسعار، هذا فضلا عن غضبها على بعض دول أوروبا الشرقية وجمهويات الاتحاد السوفييتي المنهار بسبب انحيازها لأمريكا والأطلسي ورغبتها بإنزال عقاب بها . أوقفت روسيا الغاز عن أوكرانيا في يناير/ كانون الثاني ،2006 ربما كعقاب لها على الثورة البرتقالية . وطالبت شركة غازبروم الروسية بالسيطرة على البنية التحتية لأنابيب الغاز الواصلة إلى أوكراينا . وأوقفت ضخ الغاز إلى بيلوروسيا عام 2007 مطالبة بأسعار عالية جدا، وطالبت غاز بروم بامتلاك 50% من شبكة الغاز البلوروسية . وفرضت روسيا ضرائب على النفط المصدر، وردت بيلوروسيا بفرض ضرائب على التصدير للدول الأخرى فانخفضت واردات بولندا مما آذى روسيا . فقامت روسيا بإغلاق الأنابيب . وعاد الضخ على أثر الضغط الدولي . لقد كسبت روسيا معركة الأسعار، واستطاعت أن تشارك بملكية شبكة الغاز . لكن القيمة الحقيقية لهذا هو أن أوروبا باتت تحت التهديد الروسي لأنها تستورد كميات كبيرة من النفط الروسي والغاز . في عام ،2020 ستستورد أوروبا 75% من احتياجاتها من الغاز، أغلبها من روسيا . (Carol Saivetz, Russia: An Energy Superpower) .

استكمل القادة الروس المشهد عندما طلبوا في القمة الأخيرة التي عقدت بتاريخ ،21 22 مايو/ أيار 2009 بين روسيا والاتحاد الأوروبي في خباروفيسك الروسية والقريبة من الحدود الصينية تناولوا فيه العلاقات المتبادلة . أصر الرئيس الروسي في كلمته على ضرورة كتابة ميثاق جديد فيما يتعلق بالطاقة ليحل محل الميثاق القديم، وحتى لا تتكرر مشكلة غلق أنابيب الطاقة كما حصل في يناير/ كانون الثاني 2009 شهد المؤتمر توترا بسبب الموقف الروسي، وطلب ميدفيديف من الاتحاد الأوروبي أن يمول أوكرانيا لتكون قادرة على دفع فاتورة الغاز . وعندما سئل فيما إذا كانت روسيا ستقطع الإمدادات لم يجب بالإيجاب أو بالنفي . (IrishTimes, May22,2009) .

أي أن الرئيس الروسي يريد تعديل الأسعار والكميات المتدفقة والمشاركة في إقامة المنشآت الضرورية لاستمرار تدفق مصادر الطاقة إلى أوروبا، وهو يريد إبقاء أوروبا بين الشك واليقين .

روسيا معنية بإقامة منشآت نفطية في أوروبا ومحطات توزيع، لكن الاتحاد الأوروبي يعمل على الحد من المنشآت النفطية لدول خارج الاتحاد . وفي المقابل، تحاول روسيا التهديد بأنها ستعمل على تحويل التصدير إلى الصين التي تشهد احتياجات نفطية متصاعدة . لكن هذا التهديد يصطدم بقدرة روسيا والصين المالية والتقنية . خطوط النفط والغاز مكلفة جدا بسبب طول المسافة . ومن الممكن إذا أمسكت روسيا بزمام الأمور جيدا من الناحية التقنية، ومن ثم القدرة على الوفاء بالتزاماتها من الغاز والنفط أن تدخل إلى قلب أوروبا بمنشآتها التزويدية المختلفة، وتنافس بذلك الشركات الأوروبية وتشكل وجودا سياسيا واقتصاديا مؤثرا . أما إذا بقيت روسيا ضمن المستوى التقني القائم حاليا، وبقيت قدرتها على رفع مستوى الإنتاج محدودة، فإن الدول الأوروبية ستعمل على البحث عن مزودين آخرين، وربما وفق استثمارات أوروبية دون أن تكون هناك منافسة روسية جادة .

التعاون مع السعودية وإيران

لا تستطيع روسيا تجاهل السعودية والتي هي أكبر مصدر للنفط في العالم ولا إيران التي ترى في الطاقة مصدرا للقوة السياسية والضغط على الدول الغربية . يقدر مركز ستراتفور ((stratfor للدراسات الاستراتيجية بان الروس معنيون بالتعاون مع إيران والسعودية من أجل عدم رفع إنتاج النفط للإبقاء على أسعار النفط عالية . لكن العلاقات بهاتين الدولتين معقدة، وليس من السهل التفاهم معهما بطريقة تخدم الأهداف الروسية .

فمثلا تخشى روسيا من انفصال الشيشان لأن ذلك قد يقود إلى تفكك الاتحاد الروسي .ولروسيا مصالح في دول آسيا الوسطى وبلاد القوقاز، وهي في الغالب دول إسلامية لها امتدادها في المنطقة العربية الإسلامية، بل هي في أغلبها جزء من المنطقة العربية الإسلامية، فهل تتمكن روسيا من مد نفوذها في ظل وجود منافسة لدول إسلامية تحاول هي أن تخطب ودها؟ أي أن مد النفوذ الروسي إلى هذه الدول لا مفر سيجد له صدى أو رد فعل لدى العديد من الدول العربية والإسلامية بخاصة في السعودية وإيران . تحاول السعودية التأثير في هذه الدول من أجل أن تبقى ضمن منظومة ما يسميها الغرب بالاعتدال، بينما تحاول إيران دفعها نحو تأكيد استقلالها وتميزها وابتعادها عن الولايات المتحدة . أي أن روسيا تطلب ود دولتين إسلاميتين ليستا على وفاق .

في العراق، السعوديون يخشون انسحابا أمريكيا حتى لا تملأ إيران الفراغ الذي سيحصل . أما الروس فيريدون بقاء أمريكا لتبقى متورطة، وإيران تريد الأمريكيين خارج العراق لكي توسع دائرة نفوذها . توسيع نفوذ إيران سيرفع من وتيرة التعاون الأمريكي السعودي، وهذا ما لا يريده الروس، وأيضا سيجعل إيران أكثر قوة، والروس لا يريدون إيران قوية وإنما يريدون استعمال إيران .

ربما روسيا لا تمانع بحصار إيران نفطيا لأن ذلك يرفع الأسعار، لكن أمريكا لا تريد رفع الأسعار حتى لا تستفيد روسيا . وأيضا روسيا وإيران متنافستان في بلاد القفقاس، وطالما قاد ذلك إلى توتر بين الدولتين تاريخيا . أي أن المعادلات معقدة ومتشعبة ومتداخلة .

هذا ومن الملاحظ أن روسيا لم تحاول الانضمام إلى أوبك، على الأقل في الوقت الراهن، ولم تفتح مفاوضات في هذا الشأن مع الدول المعنية . القرار حكيم، ويشير إلى التريث الروسي وعدم الاستعجال . أوبك تحوي دولا متعددة في عضويتها، ومن الحكمة ألا تتعجل روسيا الأمر .

القوة العسكرية

تمت الإشارة سابقا إلى أن روسيا أهينت مرارا وتكرارا من قبل الغرب بخاصة الولايات المتحدة، وأصيب الشعب الروسي بإحباط ونوع من اليأس بسبب الوضع المتردي الذي وصلوا إليه بعد أن كانوا من سادة العالم في عهد السوفييت . روسيا تقلصت اقتصاديا ودخلت في حالة من الفوضى والفساد بعد صعود يالتسين إلى سدة الحكم، وأخذت حكومتها تستجدي الدعم المالي والاقتصادي الغربي، وأحيانا العون التقني كما حصل مع الغواصة الروسية التي غرقت في البلطيق .

وقد استغل الغرب هذا الوضع المتردي وأخذ يزحف باتجاه الشرق بهدف محاصرة روسيا وإخراجها تماما من إمكانية التحدي مستقبلا . لقد تم استفزاز روسيا وإهانتها عبر ثلاث قنوات رئيسية: تمدد الاتحاد الأوروبي إلى الشرق، تمدد حلف الأطلسي ليحاول شمل دول على الحدود الروسية مباشرة مثل جورجيا وأوكرانيا، ونشر الدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية وبالتحديد في بولندا وتشيكا . أي أن الوحش الغربي قد أصبح عبر هذه القنوات على أبواب الدب الروسي، وأن المسألة بالنسبة لروسيا قد تجاوزت كل الحدود بما فيه النزر اليسير من الاحترام .

لم يكن أمام القيادة الروسية إلا التحرك باتجاه الإنقاذ الذاتي . لم تكن المسألة متعلقة بالتحدي أو بالعودة إلى الحرب الباردة أو صناعة سياسة استحواذ، وإنما كانت مسألة بقاء كدولة لها كيانها المحترم وشعبها الذي يتطلع نحو التعاون مع الأمم على قدم المساواة . لقد حشر الغرب روسيا في زاوية لم يكن معها إلا ضرورة التحرك للإبقاء على روسيا حية . لكن هذا لا يعني أن السياسة الروسية يمكن أن تتوقف عند حد الزجر على الحدود، وإنما يمكن أن تمتد لتأخذ بعين الاعتبار التطورات المستقبلية والتحصين الذاتي والردع.

الشعور بالقوة

لم يكترث الشعب الروسي كثيرا لتفعيل الصناعة الروسية العسكرية والنووية بالذات لأنها لم تطف على السطح كعمل يسترجع لروسيا كبرياءها، لكن الحرب على جورجيا كانت مختلفة وولدت شعورا جديدا لدى الروس ولّد في وعيهم نوعا من الهيبة والكبرياء على الساحة الدولية . يقول أحد الباحثين إن الروس استعادوا كرامتهم مع الحرب على جورجيا . أعطتهم الحرب شعورا بأنهم قوة عظمى، وأصبح الشعور الوطني عارما . (Alex Rodriguez, Russia Regains Superpower Swagger) .

وقد لاحظ المتتبع كيف أن تعليقات أغلب الناس العاديين في وسائل الإعلام مفعمة بالعز والشعور بالكرامة والقوة . على الرغم من أن جورجيا ليست بتلك الدولة القوية أو الكبيرة، إلا أن مجرد التحرك الروسي كان كافيا ليعطي قوة دفع معنوية لجماهير روسيا، والذين أخذوا يتطلعون إلى المزيد من إثبات الذات . ومما عزز هذه المشاعر هو وقوف الغرب متفرجا على جورجيا ومكتفيا بإدانة ما حصل وداعيا روسيا إلى سحب قواتها من الأراضي الجورجية، واحترام وحدة أراضي جورجيا .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"