سبعون عاماً على اتفاقيات جنيف

04:11 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.إدريس لكريني

تشكّل الذكرى السبعون لاتفاقيات جنيف بمكتسباتها وإكراهاتها، مناسبة لاستحضار الآلام التي يعانيها الكثير من المدنيين في عدد من النزاعات.

تمثّل اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية الأربعة، الصادرة عام 1949 (دخلت حيز التنفيذ بتاريخ 21 أكتوبر عام 1950)، مرتكزاً أساسياً ضمن مقتضيات القانون الدولي الإنساني، بعدما بلغ عدد الدول التي انضمت إليها نحو 196 دولة في الوقت الحالي، فهي تسعى في مجملها إلى إرساء أهم الضمانات الكفيلة بالحدّ من تداعيات المنازعات المسلّحة، على مستوى حماية الأشخاص غير المشاركين في الأعمال العدائية، أو حماية ضحايا الحرب من أسرى وجرحى ومرضى.

فالأولى، تتوزّع على 64 مادة، تؤمّن الحماية للجرحى والجنود والمرضى والمسعفين والمدنيين خلال الحروب البرّية. أما الثانية، فقد عوّضت اتفاقية لاهاي لعام 1907، وهي تؤمّن الحماية للسفن والمستشفيات، وتأطير الحروب البحرية، وتقع في 63 مادة، فيما جاءت الاتفاقية الرابعة منها؛ لدعم حماية أسرى الحرب ضمن 143 مادة، عبر تطوير ما جاءت به اتفاقية 1929 في هذا الخصوص، بينما حرصت الاتفاقية الرابعة على تعزيز الحماية للمدنيين خلال الحروب، وداخل الأراضي الخاضعة للاحتلال؛ حيث تضمنت 159 مادة في هذا الخصوص.

يشكّل اعتماد هذه الاتفاقيات محطّة تاريخية مهمّة، أسهمت بشكل كبير في تطوّر قواعد القانون الدولي الإنساني، بعد الحربين العالميتين (الأولى والثانية) اللتين خلّفتا خسائر جسيمة في الأرواح والبيئة والممتلكات.. على طريق الحدّ من تداعيات الحروب.

وبعد مرور سبعة عقود على هذه المناسبة؛ يتجدّد طرح الأسئلة بصدد انعكاسات هذه الاتفاقيات على مستوى المساهمة في إرساء السّلم والأمن الدوليين، والحدّ من مخاطر الحروب، وتأمين حماية المدنيين خلال النزاعات المسلّحة، مع تعقّد هذه الأخيرة، وتطور الأسلحة بشكل مذهل، وبروز تهديدات «غير دولاتية» حقيقية، ومع تطور التكنولوجيا بصورة غير مسبوقة، وانتشار عدد من بؤر النزاع والتوتر في العالم، والتي ما زالت تخلّف الكثير من الويلات والمآسي في صفوف المدنيين، وبخاصة الأطفال والنساء.

في أعقاب نهاية الحرب الباردة، تخلّصت الأمم المتحدة من الجمود الذي عانته لأكثر من أربعة عقود، واستناداً إلى خطتها للسلام لعام 1992، سعت الأمم المتحدة إلى تطوير وتوسيع عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، بصورة تسمح باستيعاب الدينامية المعقدة للمنازعات، وإلى إرساء سبل متطوّرة في هذا الصدد، تشمل: الدبلوماسية الوقائية؛ وصنع السلام؛ وحفظ السلام؛ وبناء السلام، بدل الاعتماد على سبل تقليدية ومتجاوزة.

على الرغم من الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة، وبعض المنظّمات غير الحكومية، كما هو الشأن بالنسبة لهيئة الصليب الأحمر الدولي، على مستوى ترسيخ مبادئ القانون الدولي الإنساني، وتقديم المساعدات المختلفة؛ للتخفيف من معاناة المدنيين.. وعلى الرغم من تشكيل المحكمة الجنائية الدولية، وسعي هذه الأخيرة إلى إرساء مبدأ عدم الإفلات من العقاب، فإن التقارير الواردة من ميادين الحروب والمنازعات العسكرية، تفيد أن هناك عدداً من الضحايا يسقطون على امتداد مناطق عدّة من العالم، تقدّر نسبة المدنيين منهم بنحو 80 في المئة، فيما لم تستثنِ العمليات المساجد والمدارس والمستشفيات والمناطق الآمنة، كما لم تستثنِ المسعفين والإعلاميين والمشتغلين في المنظمات الإنسانية، وهي الجرائم والإكراهات التي دفعت بعدد كبير من الأشخاص الأبرياء على امتداد مناطق مختلفة من العالم إلى مغادرة بيوتهم وقراهم ومدنهم؛ بحثاً عن فضاءات آمنة.

إن توالي الانتهاكات التي تطال مبادئ القانون الدولي الإنساني، بشكل عام، واتفاقيات جنيف على وجه الخصوص، لا تعني بالضرورة تقليلاً من أهميته ونجاعته، فالعالم بعد الحرب العالمية الثانية كان سيتجه حتماً - وفي غياب هذه المبادئ التي أرستها اتفاقيات جنيف- نحو الأسوأ والمجهول.

تشكّل الذكرى ال70 لاتفاقيات جنيف بمكتسباتها وإكراهاتها، مناسبة لاستحضار الآلام التي يعانيها الكثير من المدنيين في عدد من النزاعات، ولتقييم فاعلية الجهود الاتفاقية والميدانية المبذولة؛ للحدّ من التداعيات الخطرة للنزاعات المنتشرة في مناطق مختلفة، وفرصة أيضاً لبلورة جهود دولية؛ تدعم إرساء الثقة في القانون الدولي الإنساني.

والواقع أن تحقيق هذا الرهان؛ أضحى مطلباً ملحّاً وضرورياً في الوقت الحاضر، مع الإشكالات والتحديات التي باتت تطرحها الجماعات الإرهابية التي تتخذ من بؤر التوتر والنزاع فضاءات للتمدّد، ولنشر الهلع في أوساط المدنيين، خارج أي ضوابط دينية أو أخلاقية أو قانونية، والتخطيط لعملياتها التي تطال عدداً من دول العالم، وصعوبة تطبيق مبادئ الاتفاقيات في مواجهة هذه القوى مع إصرار الدول على التذرع بسيادتها.

ما زالت انتهاكات وخروق القانون الدولي تمسّ المدنيين بشكل أساسي، سواء من قبل الدول، أو من أطراف غير دولاتية؛ حيث يحذر الكثير من الخبراء من احتمال استهداف هذه الأخيرة لفضاءات سكنية أكثر كثافة، ومع تطور النزاعات وتعقدها في عالم اليوم، لم يعد من السهل تصنيفها إلى نزاعات مسلّحة دولية، وأخرى غير دولية. كما أن الدفع المبالغ فيه بسيادة الدول وبعدم التدخل في شؤونها الداخلية، إضافة إلى الهواجس الأمنية التي تطرح في هذا الإطار؛ في الأغلب يدفع إلى وضع كل العمليات القتالية التي تشنها الجماعات المسلحة ضدّ الدول في سياق النزاعات غير الدولية، ضمن خانة الإرهاب.

ما يزال كسب رهان الموازنة بين الضرورات العسكرية وحماية الإنسانية بعيداً، ما يفرض تكثيف الجهود أفقياً، باتجاه ترسيخ قواعد القانون الدولي الإنساني بين عدد من الأطراف المدنية والعسكرية، من شرطة وقضاة وبرلمانيين، وعمودياً، باتجاه دفع الدول نحو مواءمة تشريعاتها الوطنية مع هذا القانون، والحرص على تطوير مقتضياته؛ لتواكب المتغيرات الدولية الراهنة، مع ضرورة تحمّل الأمم المتحدة لمسؤولياتها الأساسية في هذا الشأن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"