سوريا وسيناريوهات المستقبل

22:51 مساء
قراءة 4 دقائق

د. مصطفى الفقي

الدولة السورية تمثل قطراً عربياً له خصوصية، فهي منبع الحركات القومية، ومستودع العروبة تاريخياً منذ هبط عليها الأمويون بعد الفتح الإسلامي، وظلت دائماً درة متألقة عبر تاريخها الطويل، ولكن الصراع حولها احتدم كثيراً، ولم يتوقف أبداً، لأنها قلب الشام الكبير، وقد تعرضت منطقة الشام عموماً، وسوريا خصوصاً، لكثير من الأطماع الأجنبية، والضغوط الخارجية، وظلت قلعة عربية تواجه الاستعمار التركي، ثم الوجود الفرنسي، قابضة على قوميتها، متمسكة بهويتها، ثم تعرضت في نهاية أربعينات القرن الماضي لسلسلة من الانقلابات العسكرية، قادها عدد من الضباط المغامرين، إلى أن استقر أمرها في قبضة قائد الطيران حينذاك الفريق حافظ الأسد عام 1971 الذي حكم البلاد بقبضة قوية، ثم تلاه ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد. 

وعندما هبت عواصف ما يسمى «الربيع العربي»، استهدفت، ضمن استهداف، الدولة السورية، وظهر معظم النار من مستصغر الشرر، فقد كانت الأحداث في البداية صغيرة وقابلة للاحتواء، ولكن ما جرى لاحقاً أدى إلى تصعيد خطير وسريع، كان من نتائجه أن تحولت سوريا إلى مصدر للقلق والاضطراب، وجذبت إليها القوى الأجنبية من فرس وترك وروس وأمريكيين، وتصاعدت الأحداث بدخول موجات الإرهاب في إطار الصراعات القائمة والمواجهات المحتدمة، حتى جرى تدويل الأزمة السورية في تصاعد مستمر وتطورات متلاحقة، وفشل العرب في احتواء أزمة الدولة الشقيقة أو علاجها في إطار عربي، وهو ما لم ننجح في تحقيقه أبداً، لا في سوريا ولا في العراق ولا في غيرهما، رغم المحاولات الجادة أحياناً من بعض الأطراف العربية، وانتدبت الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية مبعوثاً أممياً، له وزنه ومكانته، هو الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي، ولكن الأطراف لم تتعاون معه، ولا مع خلفائه في المنصب.

 ولعبت التنظيمات الإرهابية دوراً كبيراً في تأجيج الصراع والعبث بمقدرات الدولة السورية التي كانت تتمتع قبل ذلك بقدر من الاستقرار بل والرفاهية أيضاً، حيث كانت دولة من دون ديون خارجية تقريباً، ولم تتورط في عمل عسكري مباشر مع إسرائيل منذ العام 1973 رغم الاستفزازات الإسرائيلية والغارات المفاجئة أحياناً، في ظل أسباب واهية ودعاوى زائفة. 

 ونستطيع أن نستخلص هنا عدداً من الملاحظات المتصلة بتطورات الوضع في سوريا الذي وصل إلى حالة من الجمود نتيجة تجاوز قرارات الأمم المتحدة، وبسبب مؤامرات دول الجوار تركيا وإسرائيل وإيران، ونجملها فيما يلي:

- أولاً: إن قرار الجامعة العربية الذي أدى إلى تجميد عضوية سوريا في المنظمة العربية الأولى كان خطأ كبيراً، لأنه قطع أواصر الحوار العربي السوري، وفتح الطريق واسعاً للتدويل الكامل للقضية، على نحو يسمح لأطراف خارجية بأن تدس أنفها في الشأن الداخلي للدولة السورية.

- ثانياً: كان التفاوت في مواقف الدول العربية تجاه تطورات الوضع في سوريا سبباً إضافياً لتعطيل الوصول إلى تسوية في ظل القطيعة القائمة بين سوريا ومعظم أشقائها العرب، وهو أمر ترتب عليه عزلة النظام السوري وتوقف الحوار على المستوى القومي للأطراف العربية، وكان التدخل الروسي إنقاذاً لنظام الحكم السوري بمثابة بداية مرحلة مختلفة من الصراع الذي كان من نتائجه المزيد من التعقيد، مع استدعاء واضح لتدخل أمريكي على الطرف الآخر، في وقت تطلع فيه الطامعون إلى مسار القضية وتطوراتها الجديدة.

- ثالثاً: استثمر أردوغان في أطماعه الجغرافية وأحلامه التاريخية فرصة هشاشة الوضع في سوريا، ليعبث بحدودها ويدفع بجماعات إرهابية إلى داخلها، فأصبحت المواجهة تدعو إلى اختلاط الأمر، بحيث لا نعرف من يصارع من، وتكاثرت التنظيمات الإرهابية على الساحة السورية وازدادت المشكلة تعقيداً، في وقت خرج فيه عشرات الآلاف من السوريين إلى الخارج فراراً من نيران الحرب وأهوالها، وأصبحت سوريا التي كانت تؤوي اللاجئين، هي التي تصدر أبناءها لاجئين في مشهد حزين لشعب عربي أبي، يذكر له التاريخ القومي وقفات شامخة عبر القرون.

- رابعاً: تزايدت حدة التدخلات الخارجية في سوريا، ولم يستمع الكثيرون إلى صوت العقل الذي يقول إنه لا بد من احترام الشرعية الدولية والامتناع عن تقسيم الكيان السوري المستقل، واستغلال ظروف ما جرى لتمزيق وحدة ذلك البلد الذي كنا ننظر إليه جميعاً بإكبار وتقدير.

- خامساً: إن الانكفاء الذي تعانيه الدول العربية في مجموعها نتيجة الأوضاع التي جدت قبل ما يسمى «الربيع العربي» وبعده، أدى إلى انصراف الجميع إلى الشأن الداخلي المضطرب لديها، وبقيت القضية السورية أمراً تعودوا عليه وكأنه شأن لا يعنيهم، وقد عبث الأتراك بالأراضي السورية في مراحل الصراع المختلفة، كما أطلت المشكلة الكردية بظلالها على الشمال الشرقي لدولة سوريا بؤرة الشام الكبير ومركز التاريخ العربي الطويل.

 نلاحظ مما أوردناه أن سيناريوهات المستقبل أمام سوريا تحتاج إلى معالجة موضوعية وعادلة ومواجهة أمينة وصادقة للبنود التي أوردناها، بحيث يمكن الوصول إلى تسوية تجعل من النظام السوري القائم جزءاً من الحل بدلاً من أن يكون جزءاً من المشكلة، كما أن دولاً قد اتخذت مواقف عادلة من القضية، ومنها مصر على سبيل المثال، ينبغي أن تتمسك بمواقفها المعلن ودورها الواضح في إيقاف التدخل في الشأن الداخلي لسوريا، والسعي الحثيث لإيقاف معاناة السوريين داخل بلادهم وخارجها.

 إن سيناريوهات المستقبل تتوقف بالدرجة الأولى على صدق النوايا وإخلاص الجهود، واعتبار ما جرى ويجري في سوريا قضية عربية قبل فوات الأوان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"