سبق صيني

00:56 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

تعد أسواق الأسهم في «وول ستريت»، بنيويورك، من أهم ميزات الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم. وليس هناك من سوق مماثل في عواصم المال والأعمال الرئيسية يحظى بحجم الاستثمارات في الأسهم والسندات مثل «وول ستريت»، الذي يضخ فيه متعاملون من كل أنحاء العالم المليارات يومياً. وحين أخذ الاقتصاد الصيني في الصعود قبل عقود، مع تغيير السياسة الاقتصادية للصين الشيوعية، واعتماد نموذج رأسمالي منضبط، تفوقت الصين في التصنيع والتصدير، لكن ظل قطاع الخدمات المالية غير مواكب لهذا التطور. ومع وصول الصين إلى مرتبة صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ظلت أسواق الأسهم متواضعة المكانة حتى بعد استعادة هونج كونج من السيطرة البريطانية على اعتبار أن سوق الأسهم فيها متطور عن أسواق الصين.

 صحيح أن التطور الصناعي في الصين اعتمد في البداية على نقل كثير من الشركات الكبرى، من أوروبا، وأمريكا الشمالية، وآسيا، أعمالها للصين لقلة التكلفة، لكن بمرور الوقت أصبح للصين صناعاتها الوطنية التي لا تقل أهمية عن صناعات تلك الشركات الكبرى. لذا، حين جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل أربع سنوات بشعار إعادة الشركات الأمريكية من الخارج إلى أمريكا، لم يتأثر الاقتصاد الصيني. فقد أصبح لدى الصين شركة «هواوي»، بدلاً من «أبل»، وأصبح لديها مجموعة «علي بابا» بدلاً من «جوجل»، و«أمازون»، وهكذا. وركز الصينيون في تطوير اقتصادهم على القطاعات الجديدة المعتمدة على التكنولوجيا، بالتوازي مع الصناعات التقليدية كثيفة العمالة لاستيعاب التغير الديموجرافي الهائل بانتقال مئات ملايين السكان من الريف الزراعي إلى الحضر الصناعي/التجاري.

 ومع أن الصين تطور قدراتها العسكرية، وتوسع نشاطاتها في الخارج وتبني علاقات وتحالفات في قارات العالم كلها، إلا أنها لا تستهدف على ما يبدو منافسة الولايات المتحدة على موقعها كقوة عظمى متفردة. فالصينيون لن يعيدوا نسخ الحرب الباردة، (أو الساخنة طبعاً)، في عالم ثنائي القطبية كما كان الحال بعد الحرب العالمية، وحتى نهاية ثمانينات القرن الماضي بين الاتحاد السوفييتي السابق، والولايات المتحدة. لكن هدف التنافس الصناعي في مجالات الصناعات العسكرية والفضائية يظل أولوية بالطبع، سواء لبناء القدرة الدفاعية الذاتية، أو للتصدير.

 هذا الأسبوع تحقق سبق صيني في مجال أسواق الأسهم يشير إلى تطور هذا الجانب من الاقتصاد الصيني، بما يقلص فارق الميزات بينها، وبين أمريكا. شركة آنت (النملة) للخدمات المالية التابعة لمجموعة «علي بابا» التي أسسها الملياردير الصيني جاك ما، قررت طرح 11 في المئة في السوق في طرح أولي للأسهم اعتبر أكبر طرح أولي في التاريخ لتوفيره نحو 35 مليار دولار للشركة حسب تسعير أسهمها في البداية. وشهد الطرح ما لم يشهده أي طرح على الإطلاق: اقترب معدل الإقبال على الاكتتاب من الأفراد وصغار المستثمرين من ألف ضعف الأسهم المطروحة. أي أن هناك 3 تريليونات دولار تتنافس على أسهم قيمتها أقل من 40 مليار دولار. ولهذا السبق دلالات عدة:

أولاها، قيمة الطرح التي تجاوزت أعلى طرح أولي للأسهم حتى الآن، وهو طرح عملاق النفط السعودية أرامكو. وثانيتها، حجم الإقبال على الاكتتاب في الأسهم غير المسبوق في نسبة التغطية. والثالثة والأهم، هي أن الطرح الأولي للأسهم لم يكن في بورصة «وول ستريت»، ولا بورصة لندن، ولا أي من البورصات الكبرى في العالم، بل اقتصر الطرح الأولي لأسهم شركة آنت على بورصتي هونج كونج، وشنغهاي، في الصين. بالضبط كما فعلت أرامكو السعودية قبل أشهر، واختارت البورصة السعودية للطرح الأولي لأسهمها.

 وتعد شركة آنت في حد ذاتها مثالاً على ذلك، فالشركة التي بدأت قبل سنوات قليلة كذراع مدفوعات إلكترونية في مجموعة علي بابا الصينية، تطورت بسرعة هائلة لتصبح واحدة من أكبر شركات التعاملات المالية المدارة بالتكنولوجيا الحديثة. ولم تعد خدماتها قاصرة على المدفوعات والتحويلات، وإنما امتدت للإقراض والاستثمار، وكونت صندوقاً استثمارياً بلغ من التوسع أن السلطات الصينية ضغطت على الشركة لتهدئة توسعه. وأصبحت الشركة تدير أموالاً يبلغ حجمها سنويا 17 تريليون دولار، ولديها مليار مشترك. وهذا الرقم الأخير هو الأهم، إذ إنه يبرز كيف غيرت الشركة من سلوك الصينيين، وتعاملهم مع التكنولوجيا المالية. وهذا هو السبق الصيني الأهم، لأنه يعني تطوراً لا يقتصر على الاقتصاد، وإنما هو تطور اجتماعي، وسياسي داخلي أيضاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"