عادي

«الحديقة السرية»..اكتمال الإبداع وانتصار التفاؤل

23:26 مساء
قراءة 5 دقائق
1
1
1
1

مارلين سلوم 
 

لا أذكر أن السينما العربية منحت ثقتها لطفلة موهوبة في التمثيل، فجعلتها بطلة تتقدم صفوف النجوم في فيلم من «الوزن الثقيل». ولا أذكر أننا شاهدنا فيلماً عربياً يحاكي خيال الأطفال بعمق، ويواكب مغامراتهم وأحلامهم ويتركهم يتولون قيادة العمل بكامله، بينما كبار النجوم يشاركون بأدوار ثانوية ومساعدة، إذ لا بد للنجم في عالمنا العربي أن يكون في الصدارة، وأن تبرز ال«إيجو» لتأخذ الأولوية، ثم تأتي القصص، ومضمونها، وأهدافها، ثانية، وثالثة.

لم يكن لدينا استثناء سوى الطفلة فيروز، التي منحها الراحل أنور وجدي مساحة وجعلها بطلة حقيقية يقبل الجمهور على السينما من أجل مشاهدتها، لا من أجل أنور وجدي. نتحسر حين نشاهد كمّ الأفلام التي تنتجها السينما العالمية والتي تتصدر وتصبح حديث الجمهور، وهي مصنوعة للأطفال، وأبطالها أطفال يقف خلفهم المشاهير، ولاسيما تلك الأعمال التي تتولى بطولتها فتيات يانعات، ويعتبر «الحديقة السرية» من تلك الأفلام الرائعة التي ننصح بمشاهدتها، خصوصاً أنها تناسب الحياة التي يعيشها أطفالنا في زمن الحجر، والعزل، و«كورونا».
فرانسيس إليزا هودجسون بورنيت روائية بريطانية - أمريكية، عرفت شهرة واسعة حين نشرت رواياتها المخصصة للأطفال، «اللورد فاونتليروي» (1885-1886)، «الأميرة الصغيرة» عام 1905، و«الحديقة السرية» عام 1911، وتعتبر رواية فيها من السحر ما يفوق السحر الذي وضعته السينما بكل تقنياتها حين حولت هذه الرواية إلى فيلمين ناجحين بلا شك. النسخة الأولى عرضت عام 1993 من إخراج أجنيزكا هولند، وكتابة سينمائية كارولين تومسون، والنسخة الحديثة وتحمل توقيع المخرج مارك ماندن، وكتابة جاك ثورن.
أكثر ما يلفتك في أفلام الغرب، أنك تقرأ أسماء الأبطال الصغار في المقدمة و«معهم» أسماء النجوم، الذين يكونون فعلاً مساندين للأطفال، مثل النجمين البريطانيين كولين فيرث النجم الذي بالكاد تلحظ وجوده في هذا الفيلم، وجولي والترز التي سبق أن شاركت في سلسلة «هاري بوتر»، وفيلم «بادينجتون»، وهما لمنتج «الحديقة السرية» نفسه، في حين تحملت مسؤولية الفيلم من ألفه إلى يائه وبكل جدارة، وثقة، وقوة، الطفلة ديكسي إيجريكس، ابنة ال15 عاماً، وتلعب دور فتاة في العاشرة من عمرها اسمها ماري.
ملامح ديكسي، وبدنها النحيل، و«شقاوتها»، ولين جسمها، تجعلها مناسبة جداً لدور الطفلة المدللة ماري، التي عاشت مع والديها البريطانيين في الهند. الأحداث تبدأ عام 1947، حيث تفاجأ الفتاة برحيل كل من في المنزل، حتى خادمتها تركتها وحيدة في ظل الحرب والفوضى. جندي بريطاني يسلم ماري إلى المعنيين، فيتم إبلاغها بأن والديها توفيا بسبب الكوليرا، ويتم ترحيلها إلى بريطانيا، وتحديداً يوركشاير، لتعيش مع زوج خالتها أرشيبالد كرافن (كولن فيرث)، في قصره الضخم «ميسيلثويت». وتستقبلها السيدة ميدلوك (جولي والترز)، وهي مدبرة القصر، وتحاول تلقينها قواعد القصر، وأن السيد كرافن أرمل حزين يعيش مع وحدته منذ رحيل زوجته (أي خالة ماري)، ولا يحب أن يزعجه أحد.
تُترك ماري وحيدة في غرفة باردة، ممنوع عليها الخروج منها. تسمع طوال الليل أصواتاً غريبة كأنها نحيب، وصراخ، ويختلط مع صوت الرياح والظلام الحالك. يشعرك المخرج بأنك مقبل على مشاهد رعب، ديكور القصر، الإضاءة، الأصوات، ملامح السيدة ميدلوك، المعلومات القليلة التي تسمعها عن صاحب القصر، وقوانينه الغريبة، إحساس ماري بأنها مسجونة.
المخرج مارك ماندن استوفى شروط التشويق والغموض، وذكّرنا بأجواء «هاري بوتر»، كما ذكّرنا بفيلم «أنولا هولمز»، خصوصاً من حيث الرغبة الجامحة لدى الفتاة لحل الألغاز، وعشقها للتحدي، وكلما كانت الحقيقة غامضة، وبعيدة المنال، كلما اندفعت بحماس أكبر للوصول إليها.
في البداية، تتعامل ماري بغرور وعجرفة مع الخادمة مارتا، لكنها سريعاً ما تعتاد على خدمة نفسها بنفسها، وتفهم أهمية التواضع، والتأقلم مع الظروف، والمكان. ولأنها ترفض الاستسلام للأوامر عن غير اقتناع بما يطلب منها، تتبع ماري مصدر الصوت لتكتشف أن في هذا القصر الكثير من الأسرار التي تعنيها هي شخصياً، إذ هنا عاشت والدتها مع شقيقتها جرايس أياماً جميلة لا تنسى، لكن الموت خطف فجأة جرايس فغرق زوجها في حزن شديد مع ابنهما الصغير كولن (إيدن هايهورست). صوت البكاء والصراخ يأتي من غرفة المفروض ألا تدخلها ماري، لكنها كالعادة تكسر القواعد وتقتحم الغرفة الواسعة حيث تتعرف إلى كولن الرافض لكل شيء، الشاحب اللون المقعد الذي يتوهم أنه أحدب الظهر مثل والده. تقرر ماري مساعدة ابن خالتها على التخلص من وحدته، خصوصاً أنها حين خرجت من القصر للتنزه في حديقته التقت كلباً أطلقت عليه اسم «جميما»، وقادها إلى حديقة أخرى «سرية»، وعصفور قادها بدوره إلى مفتاح شكله غريب، ولديها الكثير من الأسرار التي ترغب في مشاركتها مع كولن.
الطفلة المفعمة بالحيوية العاشقة للمرح، والانطلاق، هي، رغم أنهما في نفس السن، النقيض لابن خالتها كولن الحزين الخائف من الخروج إلى الشمس، المتوهم بأن الهواء سيجعله مريضاً، وسيموت قريباً. وتلجأ ماري لصديقها الجديد ديكون (أمير ويلسون)، لإخراج كولن خلسة من غرفته، وعزلته ومغادرة القصر لاكتشاف الحديقة والحياة.
تفاصيل ممتعة
«الحديقة السرية» من الأعمال التي لا يجوز سردها ولا حرق أحداثها، لأنها تتضمن الكثير من التفاصيل الممتعة للمشاهدة، ولأن القصة والإخراج والديكور والملابس والماكياج والتصوير والألوان والتمثيل اجتمعت ليكتمل الإبداع ويخرج الجمهور محملاً بجرعة عالية من المتعة، إضافة إلى المعاني المهمة والرسائل التي يوصلها إلى كل أفراد الأسرة وليس الأطفال فقط، حول كيفية مواجهة حرقة الفراق والموت ومواجهة الواقع والخروج من العزلة، بسلاحي الإرادة والتفاؤل.
القصة عميقة، والمعالجة فلسفية ومبسطة في آن، فيها الكثير من الألغاز ما يزيد لذة السير خلف خيوطها للوصول إلى حقيقة الشقيقتين والدة ماري وأختها، وحقيقة الحديقة السرية ومرض كولن. كل الممثلين بارعون، كولن فيرث تكاد لا تعرفه من تغير شكله، والحدبة في ظهره، وسوء أحواله بسبب شدة الحزن، والعزلة، جولي والترز رائعة كعادتها، ديكسي إيجريكس تأسرك بموهبتها وقوة شخصيتها وجرأتها وثقتها بنفسها، وسلاسة أدائها أمام الكاميرا. طفلة مثلما تأخذ السيد كرافن من يده لتدله على الحقيقة، تقود كل الممثلين وتتحمل مسؤولية نجاح، أو فشل العمل، بجانب طبعاً المخرج مارك ماندن، والكاتب جاك ثورن.
هذا الفيلم الملائم جداً للأسرة وللمشاهدة الآمنة، هو ملائم أيضاً للزمن الذي نعيشه، حيث يعاني العالم انتشار «كورونا»، والعيش في عزلة إلزامية، وهو يشجع الأبناء على إيجاد مفاتيح الحياة والسعي المستمر خلف الحقيقة، واكتشاف كل ما هو أفضل بلا استسلام، أو تشاؤم.
 

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"