عادي

«الحداء» غناء يقاوم الموت

20:17 مساء
قراءة دقيقتين
1

القاهرة: «الخليج»
الحداء أقدم فن يضرب بجذوره في عمق الوجود العربي، وهو عبارة عن ترنيمات الراعي التي ينشد بها للإبل، فتتجمع حوله إن كانت متفرقة في المرعى، أو تسير في اتجاه محدد إن كانت قافلة، ويقال إن أول من سنه هو مضر بن نزار بن معد وهو من بحر الرجز، فالبعير عندما يكون مقيداً أو مريضاً تتقارب خطواته، ويسمى مشيه في هذه الحالة «رجزاً»، لأنه يرتجز مشيته، ويذهب البعض إلى أن هذه الدندنة ساعدت الخليل بن أحمد الفراهيدي في اكتشاف مفاتيح العروض والأوزان الشعرية.
الحداء إذاً هو الغناء لمقاومة الموت جوعاً وعطشاً، حيث يحث العربي الإبل بالحداء على الإسراع، واجتياز المسافات البعيدة في أيام قليلة، ويعود لأهله بالمؤن والطعام، بالحداء تغلب العربي على الصحراء، وتغلب على الأعداء في معاركه، حيث حدى الإبل والخيل فساعدها على الإقدام في المعارك، وحدى الفرسان فألهب حماستهم للقتال.
بهذا استطاع العربي المسافر عبر صحراء وعرة مقفرة، أن يخلق لغة بينه وبين الجمل المجهد، رفيق الرحلة في تلك الصحراء، بهذه اللغة استطاع أن يبعث في الجمل النشاط والحماس، كما استطاع أن ينسيه ما هو فيه من ألم الجوع والعطش والأحمال الثقيلة، أنعشها بالحداء لتستطيع متابعة سيرها.
وكما يقول خالد العجيري في كتابه «الحداء» فإن هذا الفن لم يستطع الصمود والاستمرار على ما هو عليه من لغة فصيحة، فقد تعرض مثل غيره من الفنون إلى التغيير، فبعد الفتح الإسلامي اختلطت اللهجة الفصيحة باللهجات العربية الدارجة لأهل البلاد المفتوحة، فكانت تلك الدارجة ثابتة، لأنها اعتمدت على حضارات زراعية قديمة، مثل حضارة مصر والشام والعراق، فلم تستطع اللهجة الفصيحة الهيمنة على تلك اللهجات الدارجة، والعكس صحيح.
ويرى المؤلف أن الشعر انتقل في لغته الفصيحة من بيئة بسيطة، كل اعتمادها على الرعي والتجارة فقط، إلى بيئة مثقفة متعددة الأعمال، انتقل من رجال يسكنون خياماً أو قرى طينية بسيطة إلى بلاد زراعية صاحبة حضارة ومدن تضج بأهلها وزحام شوارعها، مدن تجارية وصناعية وفنية ومعمارية، اعتاد أبناؤها الغناء في جميع مواقف حياتهم، فهناك أغاني المولود، وأخرى للأسبوع، كما أن العمال يغنون في أثناء الري أو الحرث أو الحصاد، وهناك أغاني الصيادين والبنائين، وعند توديع الحجيج واستقبالهم.
بين هذا الزخم من الغناء لم يستطع الحداء - كما يقول المؤلف – الاستمرار في لغته الفصيحة، ولم يكن لهذه اللغة أن تحوي كل هذه الأشكال في التعبير، خصوصاً بعد أن تركها من تمسكوا بلهجاتهم الجديدة المولدة، فتحول الحداء من اللغة الفصيحة إلى اللغات الدارجة لأهل الأمصار، وهنا يوضح المؤلف أن هذا الإرث لم يتم تأليفه من قبل مجموعة معينة من الأفراد، بل انتقل من جيل إلى جيل، وخضع للحذف والإضافة حسب الاحتياجات البيئية للأفراد المستخدمين له، حتى وصل إلينا على الشكل الذي هو عليه، ولن يتوقف عن التعديل حتى يصل إلى مراحل التسجيل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"