عادي

المعاملات الإسلامية.. تنظيم عادل دقيق يحاصر كل صور الظلم

23:19 مساء
قراءة 6 دقائق
1

رغم محاولات التشكيك في‮ ‬صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في‮ ‬عالمنا المعاصر، وما فيه من تحديات سياسية واقتصادية وطائفية وصراعات أيديولوجية، إلا أن التشريعات الاقتصادية الإسلامية فرضت نفسها على مجتمعات إسلامية وغير إسلامية، ولقيت أنظمة الإسلام في‮ ‬إدارة المعاملات والاستثمارات وجميع الأنشطة الاقتصادية قبولاً وترحيباً من المسلمين وغير المسلمين، وذلك لما تتميز به من مصداقية في‮ ‬التعامل ومرونة وسعة وقدرة على إدارة المال، بما‮ ‬يحقق مصلحة الفرد والمجتمع في‮ ‬كل عصر وتحت أي‮ ‬ظرف‮.‬

حظيت المعاملات الإسلامية خلال العقود الأخيرة بشهادات من خبراء الاقتصاد‮ ‬غير المسلمين في‮ ‬العالم، حيث نظمت الشريعة الإسلامية العلاقات المالية والتجارية تنظيماً دقيقاً، وضبطت الأنشطة الاستثمارية في‮ ‬المجتمع بقيم وأخلاقيات فاضلة، وحاصرت كل صور الظلم والاستغلال والكسب الحرام، من خلال تشريعات عادلة شهد بمصداقيتها الجميع‮.‬
هذا ما كان‮ ‬يقوله بإيمان عميق وبقناعة كاملة العالم الراحل د‮. ‬يوسف إبراهيم رحمه الله، الذي‮ ‬شغل لسنوات منصب مدير مركز الاقتصاد الإسلامي‮ ‬بجامعة الأزهر‮.‬
مجتمع آمن
ولطالما‮ أكد ‬أستاذ الاقتصاد الإسلامي‮ ‬الراحل أن معاملات الإسلام الاقتصادية تحرص على تحقيق مجتمع آمن، من خلال حرصها على العدل‮ ‬ورفض كل صور الظلم‮. ‬ويقول‮: ‬الحالة الاقتصادية لأي‮ ‬مجتمع تزدهر في‮ ‬ظل وجود جسور للثقة والتفاهم بين كل أفراد المجتمع، وهذا ما‮ ‬يحرص عليه منهج الإسلام الاقتصادي، حيث‮ ‬يوضح لكل واحد حقوقه وواجباته، ويوضح أركان وشروط المعاملات المشروعة، ويتجنب الظلم والغرر والجهالات، ويحرص على تطمين الإنسان على أن حقوقه محفوظة، وأمواله وممتلكاته في‮ ‬أمان، ولا‮ ‬يجوز لدولة أو هيئة أو فرد أن‮ ‬يعتدي‮ ‬عليها، ومنظومة الحلال والحرام في‮ ‬تشريعات الإسلام الاقتصادية، تستهدف مصلحة الفرد والمجتمع، وهذه المنظومة لم تترك معاملة من المعاملات من دون أن توضح وجه الحلال والحرام فيها، حتى تستقر حياة الإنسان وتنصلح جميع أحواله، والمسلم مطالب شرعاً بالتزام الوسائل والطرق التي‮ ‬أحلها الله‮ ‬عز وجل‮ ‬في‮ ‬كل تعاملاته، والابتعاد عن الشبهات فضلاً عن الحرام، وهو ليس حراً في‮ ‬اختيار أسلوب تعاملاته المالية؛ بل هو مطالب شرعاً بالتزام الحلال والبعد عن الحرام في‮ ‬مأكله ومشربه وملبسه، وفي‮ ‬جميع أقواله وأفعاله ومعاملاته‮. ‬وكل من‮ ‬ينحرف عن طريق الحلال عامداً قاصداً، عليه أن‮ ‬ينتظر عقاب الخالق الذي‮ ‬شرع له كل ما‮ ‬يصلح حياته‮.‬
وأوضح عالمنا الراحل أن المعاملات التي‮ ‬حرمتها الشريعة الإسلامية لما تتضمنه من ظلم واستغلال، لها صور متعددة،‮ ‬ولكل صورة منها وجه الحرمة الخاص بها ف«الاحتكار» ‬مثلاً وهو:‮ ‬شراء الشيء وحبسه ليقل بين الناس ويرتفع سعره عن حدود الاعتدال، محرم لأنه‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى اضطراب أحوال المجتمع وإلحاق الضرر بأفراده، وهناك ما‮ ‬يسمى‮ (‬بيع الضرر‮) ‬وهو‮: ‬البيع الذي‮ ‬يقوم على الخداع، حيث‮ ‬يتظاهر البائع أو المشتري‮ ‬بعدم الرضى به عند تحقيقه، وهو‮ ‬يحتوي‮ ‬على ظلم للطرف الآخر، وبيع الضرر‮ ‬يندرج تحته كل بيع اشتمل على جهالة تُفضي‮ ‬إلى المنازعة وإلى إلحاق الضرر بالناس، وإلى تعطيل مصالحهم، وأيضا‮ً «‬الغش والحلف الكاذب في‮ ‬البيع‮» ‬من صور المعاملات المحرمة ومع ذلك لا تزال شائعة في‮ ‬معاملات المسلمين‮.‬
وحرمت الشريعة الإسلامية كذلك‮ «‬التطفيف في‮ ‬الكيل والميزان‮»؛ ‬أي‮ ‬الغش والخداع فيهما، وحرمت‮ «‬النجش» ‬وهو‮: ‬أن‮ ‬يزايد الإنسان في‮ ‬سعر السلعة لا ليشتريها وإنما ليخدع‮ ‬غيره، وهذا السلوك المحرم‮ ‬يتم في‮ ‬المزادات ويمارسه كثير من محترفي‮ ‬الخداع في‮ ‬البيع، وفيه إضرار كبير بالمشتري، وقد نهى رسول الله‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮، ‬عن «النجش» لما فيه من إضرار بالإنسان المشتري‮ ‬وخداع له‮، ‬كما حرمت شريعتنا العادلة التعامل في‮ ‬الشيء المغصوب أو المسروق، حيث نهى رسول الله‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮، ‬عن شراء المغصوب أو المسروق؛ لأن شراءه‮ ‬يمثل تشجيعاً على السرقة ونهب حقوق الآخرين‮.‬
ضوابط أخلاقية
ويقول د‮. ‬سيف قزامل أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر‮: «‬إن شريعة الإسلام نظمت المعاملات تنظيماً دقيقا‮ً ‬يقوم على أساس العدل الذي‮ ‬قامت به السماوات والأرض، فلا تحيز لغني‮ ‬على حساب فقير، ولا محاباة لقوي‮ ‬على ضعيف، ولا تفضيل لمسلم على‮ ‬غير مسلم في‮ ‬أمر‮ ‬يتعلق بالحقوق المادية، وتستهدف الشريعة بذلك نشر روح الإخاء، ومد جسور الثقة والتعاون بين كل أفراد المجتمع لكي‮ ‬يتعاون الكل على النهوض به اقتصادياً، وتحقيق النماء والرخاء للجميع، وتزول كل أسباب التخاصم والنزاع وهذا أمر طبيعي؛ لأن كل واحد عرف حقوقه وواجباته واتضحت له أركان وشروط المعاملات المشروعة، وعرف كيف‮ ‬يتجنب الظلم والغرر والجهالات، واطمأنت نفسه إلى أن حقوقه محفوظة، وأمواله وممتلكاته في‮ ‬أمان ولا‮ ‬يجوز لدولة أو هيئة أو فرد أن‮ ‬يعتدي‮ ‬عليها»‮.‬
ويوضح د‮. ‬قزامل أن حرص شريعة الإسلام على مصالح الإنسان، له مراتب ودرجات متفاوتة تختلف من إنسان إلى آخر، وفقاً لحاجاته ومصالحه، فهناك حاجات ضرورية لا‮ ‬يستطيع الإنسان أن‮ ‬يعيش بدونها، وهذه لا بد من توفيرها له، وهناك حاجات‮ ‬يعيش الإنسان من دونها في‮ ‬حرج وضيق، وهذه تبذل كل الجهود لتوفيرها له في‮ ‬ظل ضوابط وقواعد ترتبط بعمله وجهده وكفاحه‮. ‬وهناك حاجات تحسينية أباحتها شريعة الإسلام لهؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالرزق الوفير، وضابط الاستفادة من هذه الأمور التحسينية هو الالتزام بما أحله الله من دون إسراف أو إهدار لحقوق الآخرين‮.‬
ولكي‮ ‬تنتظم المعاملات وتحقق أهدافها كان لا بد من وجود أحكام واضحة وتشريعات محددة وضوابط حاكمة، وآداب وأخلاقيات سامية تهدي‮ ‬الناس في‮ ‬معاملاتهم إلى ما‮ ‬يزيد من تعاونهم ومحبتهم ومن أمنهم وسعادتهم، ولذلك أكدت الشريعة الإسلامية ضرورة التزام الحلال، فالكل مطالب بالتزام الطرق والأساليب المشروعة، والابتعاد عن الشبهات، فضلاً عن الحرام، فالله‮ ‬سبحانه وتعالى‮ ‬يقول‮: «‬يا أيها الناس كلوا مما في‮ ‬الأرض حلالاً طيباً‮ ‬ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين‮».
رحمة وتسامح
ويضيف‮: ‬إن المسلم في‮ ‬كل معاملاته المادية رحيم بمن‮ ‬يتعامل معهم، ولذلك‮ ‬يتخلق دائماً بخلق التيسير على المعسر والرأفة به، وتأجيل ما عليه من دين حتى‮ ‬يغنيه الله من فضله، وهو في‮ ‬هذا السلوك الراقي‮ ‬يلتزم بقول الحق سبحانه‮: «‬وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‮»‬، وبقول رسول الله عليه الصلاة والسلام‮: «‬من‮ ‬يسّر على معسر‮ ‬يسّر الله عليه في‮ ‬الدنيا والآخرة، والله في‮ ‬عون العبد ما كان العبد في‮ ‬عون أخيه‮».‬
كما أن‮ ‬الصدق والسماحة هما لسان حال كل مسلم في‮ ‬معاملاته، حيث‮ ‬يكون في‮ ‬كل تعاملاته المادية وعلاقاته ونشاطاته التجارية صادقاً متسامحاً، فكل معاملة تقوم على الصدق والسماحة‮ ‬يبارك الله تعالى فيها، ويترتب عليها الخير الوفير لكل من البائع والمشتري، والرسول‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮ ‬يقول‮: «‬البيعان بالخيار ما لم‮ ‬يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في‮ ‬بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما‮». ‬وفي‮ ‬حديث آخر‮ ‬يقول‮: «‬التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء‮». ‬وفي‮ ‬حديث ثالث‮ ‬يقول عليه الصلاة والسلام‮: «‬رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى‮»‬؛ أي‮ ‬طالب الناس بحقوقه‮.‬
الوفاء بالحقوق
والشريعة الإسلامية ألزمت كل من‮ ‬يتعامل وفق منهجها بأداء الحقوق والوفاء بالدين‮، ‬فأداء الحقوق لأصحابها واجب على المسلم، فالرسول‮ ‬يقول‮: «‬أعطوا الأجير أجره قبل أن‮ ‬يجف عرقه‮». ‬وبيّن‮ ‬صلى الله عليه وسلم‮، ‬أن من الناس الذين‮ ‬يُبغضهم الله تعالى‮ «‬رجل استأجر فاستوفى منه، ولم‮ ‬يعطه أجره‮». ‬كذلك من آداب وأخلاقيات المعاملات التي‮ ‬يجب التحلي‮ ‬بها بين الناس، الوفاء بالديون، وفي‮ ‬الحديث الصحيح‮ ‬يقول عليه الصلاة والسلام‮: «‬من أخذ أموال الناس‮ ‬يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها‮ ‬يريد إتلافها أتلفه الله‮».‬
وقد حثت الشريعة الإسلامية على تنمية المال واستثماره بكل صورة مشروعة، وحذر الله‮ ‬عز وجل‮، ‬من التعامل السفيه مع المال، فقال سبحانه‮: «‬ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي‮ ‬جعل الله لكم قياماً‮ ‬وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً‮ ‬معروفاً‮». ‬ومن هنا فالمسلم مطالب شرعاً، بأن‮ ‬يستخدم أمواله في ما أحله الله من دون إسراف أو تقتير، ومن خلال المعاملات التي‮ ‬تعود عليه وعلى الآخرين بالخير، وأن‮ ‬يعمل على تنمية أمواله في‮ ‬كل ما‮ ‬يعود على الأمة بالرخاء والتقدم، وأن‮ ‬يجعل منها للفقراء وأصحاب الحاجات نصيباً معلوماً، وهو الزكاة‮.‬
لذلك حث الإسلام على السعي‮ ‬في‮ ‬طلب الرزق، وحرم سلوك الإنسان الذي‮ ‬يقعد عن العمل ويكف عن الكفاح استناداً إلى ما معه من أموال، فالله‮ ‬سبحانه وتعالى‮ ‬يقول‮: «‬هو الذي‮ ‬جعل لكم الأرض ذلولاً‮ ‬فامشوا في‮ ‬مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور‮». فهذه الآية الكريمة تحمل دعوة للمسلمين لكي‮ ‬ينتفعوا بما في‮ ‬الأرض من كنوز حتى‮ ‬يظفروا بالغنى والرخاء في‮ ‬مطعمهم ومشربهم وملبسهم وجميع أمور معاشهم‮.‬
 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"