سقوط الفلسفة عن العرش

00:46 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

ضاعت الكتابة واللغات، وصرنا في عصر السماع، أو في عالم لا يمكن الإحاطة به. أسموه خطأ عصر العولمة، لكنّه عصر الكوكبيّة، والفرق يحتاج إلى كتاب لشرحه. إنّنا في عصر مشابه لعصر كريستوف كولومبوس، مكتشف القارة الأمريكية، حيث قصدها أهل الأرض، وما زالوا، بغية المال. كان يكفي لمن يطأ أرض أمريكا حصان، وبندقيّة، وقطعة أرض يحتلّها موقعاً ينطلق منه، ويمتلكه. أليست اللغات والثقافات تقنيّات فتح مواقع / أراضٍ إلكترونية يقيم فيها الأفراد بتنوّعهم ولغاتهم عبر موافقتهم بنقرة agree للشروع بالنشر والبث الحرّ دون التفات للسلطات اللغوية على الأقل؟

 ينطوي زمن الجمع بين أثلام المحراث وسطور الكتابة في الاستقامة، أعني الحضارتين الزراعية والكتابية. كان المعلّم ينهر تلميذه الشارد بريشته نزولاً إلى النهر عند الكتابة، ويصرّ على الخط المستقيم. يغيب زمن الكتابة واللغات، ويستفحل بالبشرية الصمت أو الكلمات من دون الكلام، والمكتبات من دون كتب، وتشبيه الكتب بالحقول الجرداء التي ما عادت تصلح للأبجديات، وذلك في بحث لغوي يحاول الربط بين الكتابة والفلاحة، في عصر مغاير تبرز فيه الزراعة في الماء والهواء، أو من دون تراب.

 إنّ كلمة صفحة مثلاً وردت من pagus باللاتينية، وهو ما لم أقع عليه بل على مصطلح pagina اللاتيني، ويعني الحقل المزروع، ووجدت أنّ مصطلح الكتابة باليونانية هو boustrophedon يينما تعني bous البقر أو الثيران، وتعني strophèm الدوران من اليسار إلى اليمين، وبالعكس، وهنا لا أستبعد عند تشبيه الأثلام بالأسطر، والحقل بصفحة الكتاب أن يكون مصطلح «الفدّان» الشائع بالعربية قد تمّ نقله عن Phédon باليونانية.

يمكننا في المجال، تذكّر ابن خلدون بسرواله العتيق ترك لنا مقدّمته الأبديّة بالريشة والدواة وفوق «طبليّة» خشبيّة، ومثله الجاحظ تاركاً لنا 360 مؤلّفاً من الروائع، كتبها مقرفصاً أو قاعداً فوق حصير وأمامه لوح خشبي ينقله من زاوية لأخرى لا نعرف مواقعها الثقافيّة اليوم. 

 ساهم عصر الإنترنت الفضائي أو شبكة الشبكات بردم الهوة بين البشر والتقنيات، وخطا بواسطتها بسرعة وسهولة تفوق بكثير استطالات الجسد والحواس عبر اختراع الحاسوب، جامعاً الاستطالات كلّها بالدماغ قائد شبكة الأعصاب البشريّة والذاكرة. وصار الإنسان الإلكتروني مزوّداً بأطراف كهربائية وميكانيكية وعيون وآذان إلكترونية، وملقّماً ببرامج الحركة والكتابة والقراءة وعصارة فكرنا وتجاربنا، ونستأنس برفقتها في قصورنا ومصانعنا ومتاجرنا ومكتباتنا ومدارسنا، وقد يتركها أولادنا وأحفادنا ليلاً تحت وسائدهم، كأنّ ذاكرة الإنسان أصبحت مستودعاً، أو وعاءً، وحواسه هوائيات، ولغته إشارات ونبضاته وفكره مواد قابلة للتعليب في عصر الذكاء الاصطناعي دائمة الكشف.

 إنّ استشراء المجاز في إسقاط الحواجز بين الإنسان والآلة، على الرغم من الإقرار بصعوبة ارتقائها إلى مستواه، يدخل شبكة الشبكات إلى المستوى الذي تبدو فيه ممثلةً لأقصى تجلّيات الاتصال الاصطناعي الذي هو، في رأينا، اللااتصال. هكذا قد تساعد الإنترنت في تثبيت مركزية الإعلام، فتندمج الألياف الضوئيّة والكابلات الأرضية والبحرية وأشعة المايكروويف ودوائر الأقمار الصناعية.. إلى درجة توصل معها الأمر إلى التخوف من «حدوث أزمة مرور» للأقمار الصناعية التي تتزاحم في ارتفاعها الثابت بالنسبة للأرض وبصورة تهدّد بتداخلات موجات إرسالها.

 استهلكت هذه الأمور وغيرها منّي كثيراً من الجهود في البحث والتحليل، بانت فيها المشاهد الإعلامية واللغوية كأنّها حضارات قديمة تنهار أمام حضارة جديدة، لا تقوم، لأوّل مرّة في التاريخ، على أسس ثابتة، إمّا لأنّها غير مستقرّة بعد ولن تستقرّ، وإما لأنّ ملامحها المستقبليّة لم تتبلور نهائيّاً حتى الآن، وليس لي أن أُقيم وزناً لمخاطرها ونتائجها، لا لكون تجاربها بعيدة عنّا ونحن نستخدمها كما الدنيا، بل ربّما لأنّها ما زالت تدرج كمسائل ثقافية نسبية في وقعها العام.

هناك أسطوريّة في الأفكار، ومبالغة في التوقّعات، بعد أفول الفلسفة عن عرشها الذي شغله الإعلام بعدما ذوت الطاقة التواصليّة الحيّة في العالم. أليس صحيحاً، ونحن في الألفيّة الثالثة، أنّ الفلسفة صار محورها الإعلام والخيال والسياسة والأيديولوجيا والصحة بعدما خلعت مضامينها التقليدية الميتافيزقية التي عاشت آلاف السنين؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"