توازنات القوى وإدارة التاريخ

01:06 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

لا يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه؛ لأن الزمن لا يعود إلى الوراء؛ بل هو نهر جارٍ باستمرار نحو الأمام، لكن الأحداث قد تتشابه في ما بينها لأسباب مرتبطة بالعلاقة بين الذات والموضوع والأنا والأشياء، فالبشر هم البشر لا تتغير طباعهم المجبولة على حب التملك والنرجسية. ومع أنه ظهرت دول إمبراطورية تفرض سلطانها على مجموعات كبيرة من الشعوب، فإن تجربة حكم العالم أجمع لم تظهر إلا مع ظهور الإسكندر المقدوني الذي عمل على إقامة دولة عالمية في مختلف بقاع العالم، لكن بعد وفاته سرعان ما انقسمت هذه الدولة فتحطم حلم الدولة العالمية، لكن مع انبعاث الفكر في أوروبا من جديد عاد مفهوم الدولة العالمية إلى الوجود، لكنه عاد محملاً بفكر أيديولوجي، بدأت ملامحه مع الثورة الفرنسية، ومن ثم ظهر جلياً في القرن التاسع عشر عبر مشروعين: ظهر أحدهما من رحم الآخر، وهما المشروع الرأسمالي، والمشروع الشيوعي الذي كان نتيجة لتغوّل رأس المال في التحكم في شعوب غرب أوروبا.

ومع بداية القرن العشرين نجح الشيوعيون في السيطرة على روسيا، ومن ثم في بناء دولة كبيرة تحت مُسمى الاتحاد السوفيتي، تألفت من الدول التي كانت تخضع لسيادة روسيا القيصرية. وسار الشيوعيون السوفيت باتجاه عولمة الفكر الشيوعي عبر دعم الحركات الشيوعية في مختلف الدول. وفي المقابل نجح الفكر الرأسمالي في بناء مجتمعات متطورة في الغرب، تمثلت في دول الغرب الرئيسية وهي: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. وعلى الرغم من أن الحرب العالمية الثانية كانت في بدايتها، حرباً بين تلك القوى الرأسمالية، فإنها سرعان ما اتخذت أبعاداً أخرى، خاصة بعد اشتراك الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة فيها، فأصبحت حرباً متعددة الأوجه والأهداف، إلى أن انهارت ألمانيا وإيطاليا، فظهر عالم ثنائي القطبية منذ عام 1945 بين المشروعين الرئيسيين: الشيوعي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة.

وكان انهيار الاتحاد السوفيتي نهاية لتلك الثنائية، فجاءت العولمة ذات الفكر الرأسمالي، الذي بات وحده يسيطر على العالم أجمع، لكن الخوف من ابتلاع هذه العولمة للحضارات والثقافات المختلفة تحت إطار الثقافة الأمريكية الغربية، فقد ظهرت مشاريع فكرية جديدة هدفها القضاء على تلك العولمة أو تحجيمها. وهذه المشاريع تركزت أساساً بين الفكر القومي، والأصولية الدينية. وفي إطار الفكر القومي عادت روسيا للمنافسة على حكم العالم، لكنها ترتدي اليوم عباءة القومية، وظهرت حركات دينية متطرفة في العالم الإسلامي تهدف إلى إقامة ما يسمى «دولة الخلافة»، بهدف تحقيق عولمة الإسلام. 

وفي عصر عودة الأمة والجهاد العالمي، فإن الماضي عاد اليوم بقوة، مع كل المشاعر التي يحملها، وفقاً للخبير الفرنسي في العلاقات الدولية Bruno Tertrais، وذلك في كتابه «الانتقام من التاريخ» حيث يقول: «إن عقيدة الدولة الإسلامية والقومية متجذرة في الحنين إلى عظمة سابقة، مما يقسم العالم مرة أخرى إلى كتلتين مع نفس القادة دائماً: الولايات المتحدة من جهة، وروسيا من جهة أخرى».

والواقع أن العالم اليوم بات أشد خطورة مما كان عليه في السابق، ليس بسبب امتلاك الدول المتنافسة أسلحة خطرة؛ بل بسبب تفجر بركان القوميات والأعراق. 

إن العولمة الرأسمالية المتفوقة لا تهتم مطلقاً ببقاء الدول المختلفة في حالة انسجام بين المكونات التي تتألف منها؛ بل إنها ترى أن ظهور آلاف الدول في العالم يصب في النهاية في مصلحتها، حيث سيكون من السهل آنذاك تحقيق ذاتها، وحكم العالم لألف سنة قادمة، بينما ترى دولة متعددة القوميات مثل: روسيا، أن من واجبها الدفاع عن استقرار الدول المختلفة حتى لا تتفكك، وتصطلي بنار التفتت، وحتى لا يؤدي التعارض بين العولمة الرأسمالية والفكر القومي، إلى حدوث حرب كبرى في العالم.

الواقع أن اندفاعة العولمة الرأسمالية الغربية لن تتوقف ما لم يتم إيقافها سواء بالطرق السلمية أو العسكرية، مادامت طرق السلام باتت شبه معطلة بسبب حرب العقوبات الاقتصادية التي حدثت بين الغرب من جهة، وبين روسيا والصين من جهة أخرى، وهي مستمرة، وتشهد تصاعداً مخيفاً مترافقاً مع تحركات عسكرية تجري على حدود روسيا الغربية وفي دول البلطيق الثلاث، وفي الشرق الأقصى في كوريا الجنوبية واليابان. 

يوحي كل ذلك بأننا بتنا على مقربة من اندلاع نزاع عالمي سيكون الفيصل في تلك المشاريع، إما أن تنتهي كلها ليولد بعدها عالم تعددي يحترم بعضه بعضاً، أو أن بعضها سيقضي على الآخر، ليستمر العالم كما هو اليوم دون تغيير. ولعل الراجح، في حال وقوع تلك الحرب، هو انتهاء مختلف المشاريع الفكرية وانبثاق حضارة إنسانية جديدة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"