الحرب الكبرى وسقوط القوى العظمى

00:03 صباحا
قراءة 4 دقائق

محمد خليفة

لم تمر البشرية بمرحلة عصيبة مثل تلك التي تمر بها اليوم؛ فما كاد العالم يتعافى من آثار جائحة كورونا، حتى نشبت الحرب الروسية الأوكرانية لتلقي بظلالها على البشرية جمعاء، رغم أنها تدور في أوروبا، ولم يكد العالم يتعايش مع آثار تلك الحرب، حتى نشب الصراع في فلسطين، لينشغل العالم كله عن الحرب الروسية الأوكرانية، وتشتعل التظاهرات في أماكن متفرقة من العالم.

إنها حقبة مترعة بالرعب المسكون بالاضطراب المشبع بالمخاوف، مرحلة جعلت العالم يعيش تحت مظلة سوداء من دخان المعارك المشتعلة وكوارث الأسلحة المدمرة، وفي هذه الظروف الصعبة، وفي دوامة الأحداث العاصفة هنا وهناك، ما جعل عالم اليوم هو عالم العنف والتوازنات المعقدة والكيانات الهزيلة المفككة، ما يسرّع من تغييرات جذرية في هندسة القوة والصناعات العسكرية، ولذلك فإن البشرية لا محالة مهددة بالتعرض للانهيار والتغيير الجذري في الجغرافيا السياسية للعالم.

ومن يدرس التاريخ، فسيراه مملوءاً بجثث الشعوب المنقرضة والإمبراطوريات البائدة، وهذا ما أشار إليه المؤرخ الأمريكي الشهير بول كيندي في كتاب «نشوء القوى العظمى وسقوطها»، والذي يقول إن الولايات المتحدة تتدهور اليوم كقوة عظمى وتتآكل اقتصادياً وعسكرياً وتتضاءل نفوذاً وسلطاناً، ويذهب كيندي إلى القول أيضاً بأن تدهور الولايات المتحدة هو اليوم أسرع وأشد من تدهور الاتحاد السوفييتي. ويدفع هنا إلى أن أوروبا «إذا بقيت منقسمة على نفسها، فإن قدرها سيدفع بها إلى المزيد من التدهور؛ حيث إن ثمة ديناميكية للتغيير، وهذه الديناميكية مسوقة بالفلسفة المادية ومذهبها الأخلاقي يستند إلى المكيافيلية، ما أدى إلى تعاظم الأخطار في العالم من جراء تعارض السياسات بين الدول العظمى، ويبدو أن ميدان الحرب بات مفتوحاً».

لكن رغم ذلك، فلا يزال التعاون مستمراً حتى بين الدول المتصارعة؛ إذ لم تنقطع العلاقات الاقتصادية بالكامل بين كل من روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى. إلا أن تلك العلاقات باتت في أضيق حلقاتها وهي ستنتهي مع أول إشهار للسلاح بين الجانبين.

وتبدو بولندا من أخطر الدول التي ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، كعلامة على تفوق المحور الأنجلوساكسوني، حيث كانت قبل نشوب تلك الحرب موزعة بين الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية، وقد نتج عن هزيمة هاتين الدولتين معاً خلال الحرب، أن نشأت بولندا كدولة مستقلة، وأضيف إليها ممر دانزيغ الذي تم انتزاعه من ألمانيا، وكان يربط الأرض الأم الألمانية مع بروسيا الشرقية على امتداد بحر البلطيق. وقد أصبحت بولندا بمنزلة شوكة في أعين كل من الاتحاد السوفييتي السابق وألمانيا، فاتفقت هاتان الدولتان على القضاء عليها، والاستيلاء على أراضيها مناصفة بينهما، وهو الاتفاق الذي تم وضعه موضع التطبيق، السبب الأول لقيام الحرب العالمية الثانية، والتي عادت نتيجتها لتؤكد النصر الأنجلوساكسوني من جديد، وقد ترسخت قوة الولايات المتحدة في أوروبا والعالم.

ومع انقلاب المشهد في أوروبا جراء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، بدت بولندا مرشحة لتكون ساحة صراع جديد بسبب قربها من الحدود الأوكرانية، وانخراطها في النشاط العسكري ضد روسيا وتقديمها المساعدات للجيش الأوكراني.

ومع إعلان دول حلف شمال الأطلسي عن رغبتها في تقديم طائرات «إف 16» لأوكرانيا، وإعلان بولندا استعدادها لاستضافة هذه الطائرات في مطاراتها بعد أن دمرت روسيا كل مطارات أوكرانيا، فقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه «لو حلقت طائرات إف 16 الأوكرانية من مدرجات بولندا سنقصف تلك المدرجات». وفي حال نفذت روسيا تهديدها وقصفت مطارات بولندا، فان ذلك سيكون بمنزلة اعتداء على دولة عضو في حلف شمال الأطلسي، وسيكون الحلف أمام تحدٍّ جديد، فهو سيعمل على تفعيل المادة الخامسة من ميثاقه.

لكن يبدو أن دول أوروبا الرئيسية، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا، قد اكتوت بنيران حربين عالميتين سابقتين، وقد عانت كل دولة منها، إضافة إلى معظم دول أوروبا، معاناة شديدة استمرت عدة سنوات حتى تعافت، حتى تلك الدول التي خرجت منتصرة كفرنسا وبريطانيا لم تخل من المعاناة، لذا فهذه غير مستعدة للدخول في أتون حرب جديدة، كما أن ضبابية الانتخابات الأمريكية التي قد تسفر عن عودة ترامب، الذي أهمل أوروبا، وأعطاها ظهره، وطالبها بتحمل نفقات حماية الولايات المتحدة لها. كل ذلك سوف يلقي بظلاله على السياسات الأوربية في المستقبل القريب، خاصة بعد أن استنفذتها الحرب الأوكرانية اقتصادياً وعسكرياً، ولم تستطع حسمها حتى اللحظة رغم الدعم الأمريكي لها.

ومن هنا فإنه حتى لو تم تفعيل اتفاقية الحلف من أجل بولندا، فإن دخول الحلف في الصراع الأوكراني لن يكون سريعاً؛ لأن الحرب في أوكرانيا كانت ولا تزال مجرد معركة في إطار ذلك الصراع الكبير الذي ستكون معركته الرئيسية الكبرى ضد الصين، وسوف يتم توجيه طاقة الحلف نحو الشرق، حيث من المتوقع أن تبدأ الحرب في بحر الصين الجنوبي وخليج تايوان وستصل بامتداداتها إلى روسيا وأوروبا وإلى أجزاء واسعة أخرى من العالم. لكن أوروبا ستكون، لأول مرة، ساحة حرب رديفة وليس ساحة قتال أساسية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdd9ma9b

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"