مواجهة وجهي التنمر والعجز

01:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

في مقال تحت عنوان «عندما يخضع كل المجتمع للهيمنة» بينّا في الأسبوع الماضي كيف استطاعت معظم الدول العربية تجييش كل قدراتها المالية والأمنية؛ للهيمنة على كل مؤسسات الدولة ومجتمعها المدني؛ بحيث لم يعد يوجد أي وجود للمجتمع يذكر، وإنما تنمر جبروت مؤسسات الحكم والإدارة وسلطات الأمن.
 شاءت الصدف العجيبة أن يظهر الوجه الآخر لتلك الصورة التي رسمنا في ذلك المقال. فغدا وجه التنمر يحل محله وجه الحذر المرعوب، وقلة الحيلة والمسؤوليات الإنسانية. لقد أزاح القناع عن ذلك الوجه شباب وشابات وشيوخ وعجائز وأطفال القدس وفلسطين، وهم يتحدون جنود الاحتلال والمستوطنين، ويبذلون الغالي والنفيس؛ من أجل المحافظة على قدسية رمز عربي وإسلامي، يخص جميع المسلمين والمسيحيين؛ رمز المسجد الأقصى المبارك.
 ولقد أظهرت تلك الصورة البائسة غياباً تجاه صيحات الجرحى وأنين المحاصرين وآهات المقبوض عليهم؛ لإدخالهم في سجون التعذيب والقهر والإهانات.
 صورتان بائستان للوضع السياسي في بلاد العرب؛ تدفعان للتساؤل من قبل الكثيرين: «وما الحل؟» والجواب لن يكون سهلاً؛ لكن لا بد من رسم بعض الخطوات الأولية المحورية في طريق ذلك الحل. هنا يجب أن يتوجه الخطاب إلى أجيال المستقبل بعد أن أصبح عبثاً التوجه نحو الأجيال السابقة التي ارتكبت الكثير من الأخطاء التي سهلت الوصول إلى الحالة العربية الراهنة، بوجهيها المتقابلين المتناقضين اللذين وصفناهما: وجه التنمر ووجه العجز.
 في اعتقادي أن من أوائل الخطوات؛ هي فهم جيل شباب المستقبل الصحيح الموضوعي لموضوع مكانة ودور الأيديولوجيا في ممارسة الحياة السياسية، وفهم ما يترتب على غيابه.
من الضروري أن يدرك شباب وشابات هذه الأمة أن هناك محاولات مستمرة لتشويه صورة وتاريخ كلمة «الأيديولوجية» كجزء من حملة نيولبرالية عولمية، وإصرار متنامٍ من قبل دوائر الحكم والامتيازات؛ لإبعاد الشباب عن الاهتمام بالسياسة، وممارستها، ورفع شعاراتها التقدمية التحررية والحقوقية العادلة.
 هذه الحملة ليست معنية بمراجعة نقدية موضوعية علمية لممارسات خاطئة وقعت فيها بعض الحركات السياسية الأيديولوجية، ولا لإعادة النظر في بعض الجوانب الفكرية في المفاهيم الأيديولوجية التي كتبت منذ قرنين، وتحتاج الآن لإعادة الكتابة؛ وذلك على ضوء مستجدات علوم النفس والاجتماع والاقتصاد والسياسة والتاريخ، وإلا لكان الأمر سيكون طبيعياً، فكل الأفكار تحتاج إلى مراجعة دورية.
 لكن المقصود هو إنهاء ظاهرة الأيديولوجيات النضالية التي أسهمت عبر القرنين الماضيين على الأخص في ضبط معاني كلمات وشعارات السياسة، وفي الإصرار على أن تكون تلك الكلمات والشعارات متناغمة مع القيم الإنسانية والروحية والأخلاقية، وفي جعل الفكر السياسي فكراً شاملاً غير مجزأ إلى نتف من الأفكار والجمل والخطابات والكلمات غير المترابطة والمنسجمة مع بعضها. وهذا يقود إلى حلول آنية مؤقتة لهذا المطلب السياسي أو ذاك، من دون التوجه إلى إزالة الأسباب الحقيقية التي قادت إلى ذلك المطلب، وبالتالي إبقاء الوعي السياسي مجزءاً وغير مترابط في مكوناته وأهدافه التي يناضل من أجلها.
 إن مثل تلك الخطوات، وهي عدة ومترابطة ومتناغمة، هي التي ستعيد إلى النضال السياسي عمقه الفكري الذي من دونه سيظل نضال الشباب والشابات العرب السياسي يتعامل مع الآني المؤقت على حساب التغيير الأساسي العميق الضروري. ولنا عودة إلى الموضوع مستقبلاً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"