مراجعات من تحت الرماد

00:57 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

في لحظات الهزيمة، التي حلت فجيعتها على مصر يوم 5 يونيو 1967، قبل 54 عاماً، بدا أن كل شيء استحال رماداً.

 شرعية ثورة يوليو تقوضت، والنظام تهاوى، ومصير البلد معلق على مجهول.

كان من رأي «جمال عبدالناصر» أن النظام الذي يفشل في صيانة التراب الوطني لا يحق له البقاء، غير أنه من تحت الرماد تبدت إرادة مصرية إجماعية، عظمتُها في عفويتها، وقوتُها في زخمها، رفضت الهزيمة ودعت إلى تصحيح الأسباب التي أفضت إليها، وطالبت «عبدالناصر» بالبقاء لإزالة آثار العدوان.

 إن أي ادعاء بأن تلك التظاهرات المليونية، التي جرت يومي 9 و10 يونيو، «تمثيلية»، أو «مسرحية»، إهانة لا تغتفر للوطنية المصرية، وللشعب المصري بأغلبيته الساحقة.

«يا مصر لسه عددنا كتير.. لا تجزعي من بأس الغير». «يا مصر قومي وشدي الحيل.. كل اللي تتمنيه عندي». «يا مصر عودي زي زمان.. ندهة من الأزهر وأدان».

كانت تلك أبيات شعر عامي للشاعر الشاب في ذلك الوقت «نجيب شهاب الدين» لخصت ببساطتها وصدقها الروح العامة، التي سادت المصريين أواخر ستينات ومطلع سبعينات القرن الماضي، واكتسبت ذيوعاً هائلاً في أوساط الحركة الطلابية المصرية بألحان وغناء الشيخ «إمام عيسى».

 لم تشتهر للشاعر قصيدة أخرى، ولا جُمعت قصائده في ديوان. عندما رحل وحيداً ومكتئباً قبل أيام ودّعه الذين اقتربوا منه، والذين لم يسمعوا باسمه، بحزن حقيقي بقدر ما كانت أيقونته الفريدة ملهمة لأجيال كاملة طلبت النهوض من تحت الرماد.

 بعد صدمة «يونيو» جرت مراجعات واسعة لأسباب الهزيمة وأوجه الخلل في بنية النظام السياسي قادها «عبدالناصر» بنفسه.

 في محاضر رسمية حاكم نظامه بأقسى ما يمكن تصوره من عبارات، لم يكن مستعداً أن يسامح نفسه، على أنه لم يحسم الأوضاع المختلة في القوات المسلحة قبل أن تقع الواقعة، أو أن يتسامح مع أسباب الهزيمة.

 قال: «يا ريت نقول الحقيقة ولو لمدة ثلاث دقائق!»  مستلهماً قصيدة روسية شهيرة ذاعت في ذلك الوقت أمام اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي يوم 3 أغسطس 1967. نص محضر ذلك الاجتماع هو الأكثر أهمية وخطورة في مراجعات «عبدالناصر» بعد الهزيمة.

 هناك مراجعات عديدة تضمنتها محاضر اجتماعات أخرى، اشتد فيه نقده لنظامه، غير أن هذا الاجتماع  بالذات  هو الأكثر تكاملاً في شرح مقدمات الهزيمة وأوجه الخلل الأساسية، وفي إجابة سؤال: «ما العمل؟».

 «في رأيي أن النظام الحالي استنفد مداه ولا بد من نظام جديد». «ما يُقال في البلد هذه الأيام.. أن النظام بياكل نفسه، والمستقبل بهذا الشكل سيكون خطيراً جداً، لذلك أنا رأيي أن نعمل فوراً على تغيير النظام الSystem اللي ماشيين عليه لأنه لازم فيه خطأ. المعروف أن نظام الحزب الواحد تحدث فيه دائماً صراعات في القمة على السلطة».

 «أنا ضد نظام الحزب الواحد؛ لأن الحزب الواحد يؤدي غالباً إلى قيام ديكتاتورية مجموعة معينة من الأفراد». «.. إن لم نغير نظامنا الحالي فسنمشي في طريق مجهول، ولن نعلم من يستلم البلد بعدنا». «لم يبقَ في عمر معظمنا أكثر من عشر سنوات، خاصة بالنسبة لي مع المرض اللي عندي والجهد الذي أتعرض إليه. لذلك أنا شايف ضرورة تغيير نظامنا بحيث لا يسمح النظام الجديد لشخص أو لشلة غير واعية أو جاهلة سياسياً أن تحكم البلد. البلد الذي أعطانا ثقته المطلقة بلا حدود».

 وفق محضر الجلسة التالية يوم 4 أغسطس طرح «عبدالناصر» السؤال التالي: «إلى أين المسير بهذا النظام القديم؟».

 «لا بد من أن يكون نظامنا مفتوحاً، ولا بد أن تكون هناك معارضة، كما يجب أن نفتح الباب للجرايد أن تكتب بالمفتوح؛ لأنني أعتقد أن الطهارة الثورية بعد خمسة عشر عاماً (من الثورة) أصيبت كثيراً، وحتى الوحدة الفكرية بيننا أصبحت غير موجودة». «اختيارنا للنظام المفتوح يحتاج لكثير من التغيير، وإلّا فسيبقى مجرد ألفاظ، وستنظر إليه الناس بعدم الثقة، ويقولون إننا رفعنا هذا الشعار من أجل أن تتفتح الزهور فقط على طريقة المثل الصيني ليسهل تمييزها وقطفها».

 بدا «عبدالناصر» كمن يثور على نظامه. ولم تكن أول مرة. في مطلع الستينات ثار على نظامه بتحولات اجتماعية غيرت في البنية الطبقية، وأحدثت حراكاً غير مسبوق.

كأي تجربة إنسانية كانت هناك أخطاء بعضها أقرب إلى الخطايا، غير أن المسار العام حكمه مشروع واضح في معالمه وتوجهاته.

 كانت تلك ثورة اجتماعية. في أعقاب الهزيمة ذهبت انتقاداته لنظامه إلى ما يقارب الثورة عليه.

 دعا إلى مجتمع سياسي مفتوح و«دولة المؤسسات والقانون»، والقضاء على مراكز القوى داخل النظام، ودخل باجتماعات مسجلة للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي إلى ما يشبه المحاكمة لنظامه كله.

 المراجعات جرت في توقيت واحد مع إعادة بناء القوات المسلحة من تحت الصفر تقريباً. أعطت مصر كل ما تستطيع، ضحت وقاتلت لترفع رأسها مجدداً.

 بدت مصر بأجيالها الجديدة وقوتها الناعمة وناسها الطيبين على الجبهات الأمامية ومواقع الإنتاج، كمن تتأهب للنهوض من تحت الرماد كالعنقاء.

 هذا ما يستحق عدم نسيانه أبداً في أية مراجعات لما جرى في يونيو 1967 وما بعدها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"