بحساباته السياسية المتعارضة، وأثمانه الإنسانية الباهظة، يبدو الاجتياح الإسرائيلي المحتمل لمدينة رفح الفلسطينية الحدودية مع مصر، مأزقاً مستحكماً يصعب تجاوزه، أو الحد من أخطاره الماثلة.
إنه اختبار مصيري للرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، معاً، يتوقف عليه مستقبلهما السياسي.
هناك ما يدعو للاعتقاد أن اجتياحاً عسكرياً إسرائيلياً لرفح مسألة وقت، قد يتأخر لبعض الوقت بضغط أمريكي يحاول تخفيف فاتورة الدماء المتوقعة من دون أن يرفضه من حيث المبدأ.
إنها مسألة حياة أو موت بالنسبة لنتنياهو، أملاً في الوصول إلى قيادات المقاومة الفلسطينية وتحرير الأسرى والرهائن، من دون دفع أثمان قد تقّوض حكومته وتنهي حياته السياسية للأبد.
وهناك، بالمقابل، ما يدعو للتشكك في أن يحدث ذلك الاجتياح، خشية أن يفضي إلى مجازر جديدة، تنال من قرابة مليون ونصف المليون نازح فلسطيني، قيل لهم إن اللجوء لجنوب القطاع سيكون آمناً.
إنها مسألة حياة أو موت أخرى بالنسبة لبايدن، فقد تُقوّض صورته الرئاسية، وتسقط اعتباره أمام قطاعات متزايدة من الرأي العام في بلاده، وداخل حزبه الديمقراطي نفسه، تكلفه خسارة الانتخابات الرئاسية، التي اقتربت مواعيدها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
الاعتبارات الشخصية ماثلة في المشهد المأزوم بقرب الحدود المصرية، لكن تداعياته المحتملة قد تتجاوز الرجلين معاً إلى مستقبل المنطقة بأسرها والمصالح الغربية المتمركزة فيها.
في اللحظة التي امتنعت فيها الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض (الفيتو) لإجهاض قرار مجلس الأمن 2728، الذي يدعو إلى وقف الحرب خلال شهر رمضان، تبدت ردات فعل إسرائيلية غير معتادة في تاريخ العلاقات مع الولايات المتحدة.
أبلغ نتنياهو الأمريكيين قبل التصويت أنه إذا لم يستخدموا حق النقض، كما فعلوا لأربع مرات سابقة، فإنه سوف يصدر تعليماته بمنع سفر وفد من كبار معاونيه لواشنطن للاستماع إلى بدائل مقترحة لاجتياح رفح.
إنها ورقة رفح في الضغوطات المتبادلة. كان ذلك ثمناً مطلوباً لمجرد الاستماع للمقترحات الأمريكية، من دون أدنى تعهد بالامتناع عن الاجتياح نفسه.
بوقت قياسي، تعدلت لغة الخطاب على الجانبين. تحدثت المصالح الاستراتيجية وتراجعت أية اعتبارات شخصية.
البيت الأبيض اكتفى بإبداء «خيبة أمل»، مؤكداً مرة بعد أخرى أن القرار «غير ملزم»، رغم أن قرارات مجلس الأمن لها قوة الإلزام بنص ميثاق الأمم المتحدة!
بكل وضوح أكدت واشنطن أنه لا تغيير في سياساتها وطبيعة التزاماتها تجاه إسرائيل. في نفس الوقت، جرى التراجع في تل أبيب عن لغة الخطاب الحادة. بنص كلام نتنياهو، فإنه لم يمنع سفر الوفد الإسرائيلي إلى واشنطن اعتراضاً على الامتناع الأمريكي عن استخدام حق النقض، رغم أنه كان إجراء خاطئاً.
ما حدث وفق كلامه المستجد، كان رسالة إلى «حماس» لا إلى «البيت الأبيض»، إلى يحيى السنوار لا إلى بايدن: «لا تراهنوا على الضغط الدولي، فهو لن يجدي».
أعاد تعريف أسبابه لمنع الوفد الإسرائيلي من زيارة واشنطن على نحو مختلف بأنه خشية أن يشجع التصويت الأمريكي «حماس» على التشدد في المفاوضات، لكنه قال بوضوح كامل: «سوف يكون هناك موعد جديد لإرسال الوفد إلى واشنطن».
هكذا عادت مسألة رفح موضوعاً للتشاور مع البيت الأبيض.
إذا ما أوقفت الحرب الآن، فإنها سوف تكون بمحصلتها الأخيرة هزيمة استراتيجية مزدوجة لأمريكا وإسرائيل تقوض مستقبل بايدن ونتنياهو بأقرب استحقاق انتخابي.
بعيداً عن الاعتبارات الشخصية، فإن الخيارات والاستراتيجيات شبه متطابقة في ضرورة اجتثاث «حماس»، وعدم السماح لها بتمركز جديد في غزة، غير أن بايدن لديه شكوك عميقة في كفاءة الإدارة السياسية لنتنياهو، الذي تغيب عنه أية تصورات واقعية لليوم التالي بعد الحرب على غزة.
إدارة بايدن غير مقتنعة بالخطط والاستعدادات الإسرائيلية لاجتياح رفح، لا تمانع في الاجتياح نفسه، لكنها لا تثق في جاهزية الجيش الإسرائيلي وقدرته على الحسم من دون مجازر قد تفضي إلى أضرار فادحة بالمصالح الأمريكية في المنطقة.
المقترحات والبدائل الأمريكية المسربة لا تفي بمتطلبات وتصورات نتنياهو، لكنها تظل نقطة اتفاق ممكنة تحقق بعض أهدافه، لا كلها.
أخطر ما في تلك البدائل المقترحة استهداف قيادات «حماس» بالاغتيال المنهجي، أو استئصالها. هذا نهج طويل المدى، بدأته الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالفعل في لبنان.
ثم يبدو مستلفتاً في البدائل الأمريكية: زيادة المساعدات الإنسانية، وهو طلب تتبناه الأغلبية الساحقة من دول العالم، ويحرص الأمريكيون على تأكيد التزامهم به بدواعي تحسين الصورة، لكنه بالمقابل ينطوي على تخلٍ نهائي عن مشروع التهجير قسرياً، أو طوعياً. الكلام نفسه لا تستسيغه الحكومة الإسرائيلية بتركيبتها، ويظل سيناريو الاجتياح ماثلاً.
هكذا يصعب التعويل على مباحثات واشنطن الأمريكية الإسرائيلية لوقف اجتياح رفح وإبعاد شبح المذبحة المروعة التي تترتب عليه.
السيناريوهات كلها مفتوحة على تفاهمات ممكنة حول الاجتياح.. طبيعته وحجمه ووسائل نقل المدنيين إلى أماكن أخرى، وبعض ما هو مسرب عن ترتيبات وإجراءات لا تقل خطراً عن التهجير نفسه
إذا لم يكن للعالم العربي صوت مسموع ومؤثر، فإن المذبحة المروعة سوف تحدث.