العرب ومستقبل النظام الدولي

00:19 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

عندما تحطم جدار برلين وانتهت مرحلة الحرب الباردة، شهد العالم تحولات وتطورات كبرى، استثمرها الكثير من دول الجنوب في إصلاحات سياسية بناءة، وفي تعزيز جهود التنمية، وبناء تكتلات اقتصادية واعدة، وهو ما عكسته العديد من التجارب في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا الشرقية، وإفريقيا وآسيا التي استطاعت على امتداد سنوات ما بعد التسعينات من القرن الماضي أن تقطع أشواطاً من التقدم في مختلف المجالات والميادين، على الرغم من الصعوبات التي واجهتها في بداية الأمر، بعدما حولتها إلى فرص حقيقية، مكنتها من الاستئثار بمكانة متميزة في عالم اليوم.
وبحكم الجوار، كانت بلدان أوروبا الشرقية أول من تأثر بانهيار الاتحاد السوفييتي؛ حيث تباينت مظاهر التفاعل مع هذه المتغيرات بين بلدان دخلت في متاهات خطِرة من العنف، كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد اليوغوسلافي السابق، ودول أخرى استطاعت أن تدير المرحلة بقدر كبير من الحكمة، مثلما هو الأمر بالنسبة لبلغاريا وبولونيا ورومانيا وأوكرانيا.
وشهدت القارة الإفريقية تحولات ديمقراطية حملت نخباً سياسية جديدة إلى السلطة، استطاعت بأدائها تسويق صورة مشرقة عن القارة وعن مؤهلاتها البشرية والطبيعية، وتحقيق نسب نمو مهمة، تغلبت معها العديد من دول القارة السمراء كما هو الشأن بالنسبة لرواندا، على كثير من مظاهر الفقر والتخلف والهشاشة.
 وفي أمريكا اللاتينية، تمكن الكثير من الدول مثل البرازيل والشيلي من القطع مع مظاهر الانقلابات التي كلفتها سنوات من الصراع وعدم الاستقرار، وأرست تجارب رائدة في مجال العدالة الانتقالية التي اقترنت بالتحول الديمقراطي وأسهمت في تعميقه وتقوية بنيانه، ما أتاح لها تحقيق مجموعة من المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية.
وينطبق نفس الأمر على عدد من بلدان شرق آسيا، مثل كوريا الجنوبية وإندونيسيا.
وفي الوقت الذي استوعبت فيه العديد من الأنظمة في مناطق مختلفة من العالم دروس المرحلة التي أفرزها اختفاء الصراع الأيديولوجي، فإن المنطقة العربية إجمالاً تفاعلت بشكل سلبي مع هذه التحولات؛ بل كانت ضحية لها في كثير من المناسبات؛ حيث استقبلت فترة التسعينات بمزيد من الانتكاسات والتراجعات.
وهو ما ولّد مجموعة من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وأسهم في تنامي نشاط الجماعات المسلحة والتيارات المتطرّفة في المنطقة، فيما اشتد الصراع على السلطة في عدد من البلدان، واتخذ طابعاً دموياً في دول أخرى، وتزايدت الخلافات العربية البينية، وتدهور النظام الإقليمي بكل مكوناته الاقتصادية والأمنية، ما فتح الباب أمام تدخل عدد من القوى الإقليمية والدولية في عدد من دول بسبل مختلفة عمقت الجراح أكثر.
لقد تمكنت دول الاتحاد الأوروبي من إرساء تجربة إقليمية رائدة في التكتل، حققت معها الكثير من المنجزات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، على الرغم من عدد من الإشكالات التي واجهتها وبخاصة على مستوى التعامل مع بعض الملفات كالهجرة والإرهاب، وإدارة بعض الأزمات كالملف السوري والملف النووي الإيراني، ثم الانسحاب البريطاني من مؤسسات الاتحاد. أما روسيا فقد استطاعت خلال العقدين الأخيرين أن تحسم عدداً من الملفات  المتراكمة منذ العهد الاشتراكي، وتعود بشكل متدرج إلى الواجهة الدولية عبر الحضور الوازن في عدد من المحطات الإقليمية والدولية، ما جعلها تستحضر الأولويات الاستراتيجية والأمنية ضمن تحركاتها وسلوكاتها الدولية المختلفة، فيما زاد اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط بشكل ملحوظ مع تطور الأزمة السورية.
وفي خضم هذه التحولات، ظهرت الصين كقوة دولية وازنة، استطاعت أن تحقق الكثير من الإنجازات على مستوى تحقيق التنمية، وتعزيز حضورها الاقتصادي، وانفتاحها على محيطها الدولي بصورة سلسة، مع تبني مواقف دولية مهادنة وغير صدامية، إزاء عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
 وفي خضم هذه المعطيات يتجدد طرح الأسئلة، حول ما إذا كان العرب واعون بحجم المتغيرات التي يشهدها العالم من حولهم؟ وما إذا كانت هناك رؤية استراتيجية وتصور واقعي، يجعلهم قادرين على الاستفادة من هذه المتغيرات أو عدم التحول إلى مجرد ضحية لها في أقل الأحوال؟ إن تحقيق مصالح الدول العربية لا يمكن أن يتأتى بالانتظار والمراهنة على هذه الدولة أو تلك؛ بل بسياسة واقعية تقوم على استثمار الإمكانيات المتاحة، وتجاوز الخلافات البينية وبناء شراكات حقيقية، وبلورة تحالفات دولية تستوعب موازين القوى الراهنة والمستقبلية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"