عادي

دروس وعبر من الهجرة النبوية

14:06 مساء
قراءة 9 دقائق
الهجرة

لم ينقص المهاجرين الأوائل إيمان بمستقبل أو ثقة بغيب، إنما نهضوا بحقوق الدين الذي اعتنقوه، وثبتوا على صراطه المستقيم، على الرغم من تعدد العقبات وكثرة الفتن، ومن أجل ذلك هاجروا لما اقتضاهم الأمر أن يهاجروا، وبذلوا النفس والنفيس في سبيل عقيدتهم .

في وقائِع الهجرة النبوية المباركة مِن الدّروس والعبَر وفي أحداثِها من الفوائد والمعاني ما لا يكاد يحيط به الحصر ولا يستوعِبه البيان، ومنها أن العقيدةَ أغلى من الأرض، وأن التوحيدَ أسمى من الديار، وأن الإيمان أثمنُ من الأوطان، وأن الإسلامَ خير من القناطير المقنطَرة من الذّهب والفضّة والخيلِ المسوّمة والأنعام والحرث ومن كل متاعِ الحياة الدنيا، ويتجلّى هذا المعنَى بيّنًا في خروجِ النبيّ الكريم صلوات الله وسلامه عليه مع صاحبِه الصدّيق رضي الله عنه مهاجرَيْن من هذا الحِمى المبارَك والحرمِ الآمِن والأرضِ الطيّبة التي صوّر واقعَها الحديثُ الذي أخرجَه أحمد في مسندِه والترمذيّ وابن ماجه في سننهما بإسناد صحيح عن عبدالله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ أنّه قال: رأيتُ رسول الله واقفًا على الحَزْوَرَة قال: والله، إنك لخيرُ أرضِ الله وأحب أرضِ الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجت .

وفي الهجرة كمَال اليقينِ بمعيّة الله تعالى لعبادِه المؤمنين الصادقين، ذلك اليقين الراسخ الذي لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، ويستبينُ ذلك جليا في حالِ هذَين المهاجرَين الكريمَين حين عظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ببلوغ المشركين بابَ الغارِ الذِي كانَا فيه، فحين قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله، لو أن أحدَهم نظر إلى موضعِ قدمَيه لرآنا، قال رسول الله قولتَه التي أخذَت بمجامعِ القلوبِ . يَا أبَا بَكر، مَا ظنكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما، وأنزَلَ سبحانه مصداقَ ذلك في كتابه، أنزل قولَه: إِلا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِن اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيدَهُ بِجُنُودٍ لمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذِينَ كَفَرُواْ السفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِىَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (التوبة:40) .

وأي معيّةٍ هذه المعية؟ إنّها المعيّة الخاصّة التي تكون بالتّأييد والتّوفيق والحِفظ والمعونةِ والنّصر إنّما جعلها الله تعالى لأوليائِه المتّقين المحسِنين الذين بذلوا حق الله عليهم في توحِيده وإفرادِه بالعبادةِ وتركِ الإشراكِ به، ثم بامتثال أوامرِه والانتهاء عما نهاهم عنه .

الهجرة الشعورية

إن هذه الهجرةِ المباركة وعبرها جديرة بأن تبعثَ فينا اليومَ ما قد بعثَته بالأمسِ مِن روحِ العزة، وما هيأته من أسبابِ الرفعة وبواعثِ السمو وعواملِ التمكين . إِن اللهَ مَعَ الذِينَ اتقَواْ والذِينَ هُم محْسِنُونَ .

إن الهجرة الشعورية تعني انكار ومعاداة كل ما لا يرضي الله أو يخالف شريعة الله، ويظهر المسلم هذا العداء بكل الوسائل الممكنة، بالجوارح أو باللسان أو بالقلب، ويعمل على تغييره بكل الإمكانات المتاحة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان .) وأساس هذه الهجرة النية، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) . ومن هذا نرى الشارع الحكيم قد حدد نوعين من الهجرة لا ثالث لهما: هجرة إلى الله، وهجرة لغير الله، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الهجرة خصلتان، إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة .)

وإذا كانت الهجرة المادية تجب في بعض الأحوال، فإن الهجرة الشعورية واجبة على كل حال وفي كل حين، لأنها تتعلق بهجر ما لا يرضي الله تعالى، وهي قائمة إلى أن تقوم الساعة . ورد في صحيح مسلم أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئتُ بأخي أبي معبد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، فقلت: يا رسول الله بايعه على الهجرة . فقال صلى الله عليه وسلم: (قد مضت الهجرةُ بأهلها) قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على الإسلام والجهاد والخير) . ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) .

والمسلم مكلف بأن يهجر كل ما حرم الله، وأن يهاجر إلى ما أحل الله، لأن هذا هو الهدف من استخلافه في الأرض لقوله تعالى: (وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون) (الذاريات 56)، وهل العبادة إلا طاعة الله في ما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر؟ ولهذا فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باب الهجرة على مصراعيه أمام كل راغب فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه) . (رواه البخاري) وفي رواية ابن حبان: (المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) .

إصلاح الحياة الانسانية

والمعنى الذي حدده المصطفى صلى الله عليه وسلم للهجرة معنى عام، تمتد جذوره إلى أعماق الحياة البشرية، فتقيمها على أسس قويمة، تقوم على أساس الإصلاح والصلاح للحياة الإنسانية، والأمن والاستقرار للنفس البشرية، ولهذا كانت كلمات الحديث الشريف متكاملة في تحديد معنى الهجرة على أساس أنها عبادة ترتبط بعقيدة الإنسان وإيمانه، وعلى أساس أنها عملية بناء وإصلاح تأخذ بيد الإنسانية المعذبة إلى شاطئ الأمان والاطمئنان . فهجر ما نهى الله عنه يعني هجر السيئات والمعاصي والمفاسد القولية منها والفعلية، والتي هي الأساس في فساد البلاد والعباد، ولهذا أكد الحديث (كف اللسان واليد) إذ إنهما العضوان اللذان تصدر عنهما المفاسد القولية والفعلية، وإذا كانت الأعضاء سلاحاً ذا حدين يمكن أن يصدر عنها الخير كما يمكن أن يصدر عنها الشر، فإن إمكانية صدور الشر عنها أرجح من صدور الخير، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) (متفق عليه) .

واللسان اسم العضو الذي يصدر عنه الكلام، وعبر الحديث باللسان عن الكلام ليندرج تحته كل أنواع الكلام، وقدم الحديث اللسان على اليد لأن الإيذاء باللسان أسهل وأشد تأثيراً في النفس من الإيذاء باليد . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لحسان بن ثابت: (اهجُ المشركين فإنه أشق عليهم من رشق النبال) .

ورحم الله من قال:

جراحاتُ السنانِ لها التئام

ولا يلتام ما جرح اللسانُ

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب اللهُ تعالى بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه) رواه مالك والترمذي .

واليد اسم العضو الذي تصدر عنه الأفعال، حسية كانت أم معنوية، فالحسية: كالضرب والسرقة والكتابة والاشارة . والمعنوية: كأكل مال الناس بالباطل، والاستيلاء على حقوق الآخرين بغير حق، واليد مظهر السلطة الفعلية، ففيها يحدث الأخذ والمنع، والبطش والقهر، فإذا أضفنا إلى هذين العضوين عضواً ثالثاً هو (الفرج) نجد أن الإسلام أقام الحياة الإنسانية على دعائم قوية من تقوى الله والخلق الحسن والأمان والاطمئنان . وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، فقال: (تقوى الله وحسن الخلق) . وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: (الفم والفرج) . (رواه الترمذي وابن حبان والبيهقي) . ولقد ضرب صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذين هاجروا معه أروع المثل في صنع تاريخ الأمة وكيانها ومكانتها من خلال عطائهم بلا حدود وشجاعتهم وصمودهم بعزيمة لاتلين ولاتعرف اليأس . . فواجهوا بكل ثبات وقوة كل التحديات وانتصروا عليها . . وحققوا بطولات رائعة سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور . . فهل تستفيد الأمة الإسلامية من بطولات هؤلاء الرجال ومن دروس هؤلاء العظماء؟

النفس المطمئنة

إن الهجرة ليست مجرد نقلة من مكان إلى مكان . . لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) . . والهجرة المطلوبة الآن . . هي نقلة بالنفس الإنسانية من طبيعة النفس الأمارة بالسوء إلى مرتبة النفس اللوامة التي تفتش في مسيرة حياتها لتتجنب عوامل الضعف وأسباب الانحراف حتى ترقى إلى مرتبة النفس المطمئنة التي تنادي من قبل الحق تبارك وتعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) .

أما الهجرة على المستوي الاجتماعي فتعني النقلة إلى آفاق المنهج الالهي الذي أنزل الله عز وجل ليقوم الناس بالقسط وكلا النوعين النقلة النفسية والنقلة الاجتماعية هي التطبيق العملي لقول الله تبارك وتعالى (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين) .

وهذا الفرار لايكون إلا بنصرة دينه والالتزام بمنهجه والدفاع عن الحق وصون المقدسات وحماية كرامة الإنسان . . ومن هنا كان الجهاد فريضة إسلامية ماضية إلى يوم القيامة لردع المعتدين ورد الظالمين وتحطيم هيمنة الاستكبار الشيطاني على البشر . . وإن هذه هي رسالتنا في عالم اليوم ونحن نستقبل العام الهجري الجديد .

ثورة عقائدية

لقد كان الهدف من الهجرة هدفاً عظيماً، وهو الانتقال بالرسالة الإسلامية من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، والمؤرخون يقسمون سيرة الدعوة الإسلامية إلى مرحلتين متميزتين: العهد المكي الذي يمثل مرحلة الدعوة، والعهد المدني الذي مثل مرحلة الدولة . وبين هاتين المرحلتين مرحلة انتقالية تمثل مرحلة الثورة، لأنها نقلت الدعوة الإسلامية نقلة هائلة سريعة من مرحلة كان هدفها تربية الفرد المسلم إلى مرحلة أصبح هدفها تكوين المجتمع المسلم . ومن دعوة كانت مجرد عقيدة وفكرة إلى دعوة أصبحت شريعة ودولة، ومن حركة محدودة الآثار إلى حركة عالمية الأهداف، ومن دعوة أتباعها قلة مستضعفون إلى دعوة أتباعها سادة فاتحون . ولهذا كانت الهجرة ثورة عقائدية، بكل ما تحمله هذه العبارة من معانٍ إيجابية، لأنها غيرت أحوال المسلمين تغييراً جذرياً، فنقلتهم من الضعف إلى القوة، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الانحصار إلى الانتشار، ومن الاندحار إلى الانتصار، ولم تقف آثارها عند هذا الحد بل كانت ثورة على كل ما يخالف شريعة السماء وفطرة الإنسان السليمة، فشملت آثارها النواحي العقائدية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كما كان هدف المصطفى صلى الله عليه وسلم إيجاد موطئ قدم للدعوة لكي تنعم بالأمن والاستقرار حتى تستطيع أن تبني نفسها من الداخل وتنطلق لتحقيق أهدافها في الخارج، ولقد كان هذا الهدف أملاً يراود رسول الله صلى الله عليه وسلم،الى جانب تكثير الأنصار وإيجاد رأي عام مؤيد للدعوة، لأن وجود ذلك يوفر عليها الكثير من الجهود ويذلل في طريقها الكثير من الصعاب، ويخلق المجال الخصب الذي تتحقق فيه الأهداف، والمنطلق الذي تنطلق من الطاقات، ولهذا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث (مصعب بن عمير) إلى المدينة ليعلم الأنصار الإسلام وينشر دعوة الله فيها . ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وجود رأي عام مؤيد للدعوة في المدينة حثّ أصحابه على الهجرة إليها وقال لهم: (هاجروا إلى يثرب فقد جعل الله لكم فيها إخواناً وداراً تأمنون بها) .

كما كان هدف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهجرة استكمال الهيكل التنظيمي للدعوة، فقد كان غريباً أن يكون الرسول القائد في مكة، والأنصار والمهاجرون في المدينة، ولهذا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بين ظهراني أتباعه، لأن الجماعة من دون قائد كالجسد بلا رأس، ولأن تحقيق أهداف الإسلام الكبرى لا يتم إلا بوجود جماعة مؤمنة منظمة، تحث السير إلى أهدافها بخطى وئيدة .

فيصل بن مرحلتين

وهكذا تعتبر الهجرة النبوية فيصلاً بين مرحلتين من مراحل الدعوة الإسلامية وقد امتدت آثارها الخيرة لتشمل حياة المسلمين في كل عصر ومصر، كما أن آثارها شملت الإنسانية أيضاً، لأن الحضارة الإسلامية التي قامت على أساس الحق والعدل والحرية والمساواة هي حضارة إنسانية، قدمت، ولا تزال تقدم للبشرية أسمى القواعد الروحية والتشريعية الشاملة، التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والتي تصلح لتنظيم حياة الإنسان كإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته .

إن الهجرة لم تكن انتقالاً مادياً من بلد إلى آخر فحسب، ولكنها كانت انتقالاً معنوياً من حال إلى حال، إذ نقلت الدعوة الإسلامية من حالة الضعف إلى القوة ومن حالة القلة إلى الكثرة، ومن حالة التفرقة إلى الوحدة، ومن حالة الجمود إلى الحركة .

فما أحوج المسلمين اليوم إلى هجرة إلى الله ورسوله: هجرة إلى الله بالتمسك بحبله المتين وتحكيم شرعه القويم، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، باتباع سنته، والاقتداء بسيرته، فإن فعلوا ذلك فقد بدأوا السير في الطريق الصحيح، وبدأوا يأخذون بأسباب النصر، وما النصر إلا من عند الله .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"