تعليمنا.. ومتلازمتا التلقين والغش

02:41 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الفتاح نعوم  *

من أكثر الشبهات التصاقاً بالعملية التعليمية في معظم بلداننا العربية، شبهتا التلقين وميل الطلاب نحو الغش، ذلك أن المسؤولية عن الأولى تقع بكاملها على عاتق المدرس، في حين تؤول المسؤولية عن الثانية إلى الطالب، على الرغم من التسامح الثقافي والمؤسسي والقانوني؛ بل وحتى التكريس الذي تحظى به ثلاثية التلقين والحفظ والاستظهار؛ شفاهة أو كتابة؛ حيث يجري في الغالب اعتباره المنهج والقاعدة، ولا تواجهه سهام النقد إلا في بعض مساحات التناول البحثي والفكري لمشاكل العملية التعليمية، لتتناسل عن ذلك حتماً ظواهر غش الطلاب في الاختبارات، كتعبير عن الترنح بين عملية الإكساب التقليدية، وعملية الاختبار العصرية، بقدر ما تؤدي الثانية إلى مخرجات غير متلائمة البتة مع الأولى.

ولعل واقعاً كهذا يجعل الطلاب يلجأون إلى الغش لأن أنظمة الاختبار المعتمدة في معظم مؤسسات التعليم في عالمنا العربي، بمختلف أسلاكها ومستوياتها، تقوم على فكرة استرجاع ما يُفترض في الطالب أنه قد خزّنه طوال فترة التدريس، على نحو ما اعتبره الخبير التربوي باولو فريري «تعليماً بنكياً»، لدى توصيفه لأنظمة التعليم في العالم الثالث؛ بحيث يكون الطالب كحساب بنكي توضع فيه الودائع خلال عملية الإكساب والتلقين، ثم تسحب منه في الاختبار، دونما الاهتمام بأي أثر ثقافي ووجداني وتطبيقي للمعرفة في سلوك وذهن هذا الطالب.

لقد كانت العملية التعليمية التقليدية في سياقنا الثقافي العربي تمارس طوال القرون السابقة، في الجوامع والمدارس العتيقة بشكل منسجم ومتكامل، ولا تزال مؤسسات التعليم التي تأخذ بتلك المناهج سائرة على ذات المنوال؛ حيث الحفظ والتلقين يطالان مادة معرفية مخصوصة، والاختبار إن هو إلا استظهار للحفظ يطال جميع تفاصيل تلك المادة، ولا يُجيز العالم تلميذه إلا بعد رسوخ تلك المادة في ذهنه.

بيد أن اتساع مجالات المعرفة ومواضيعها منذ انبلاج عصر النهضة الأوروبي، من ناحية، ثم انتقال النماذج المعرفية وما يرتبط بها من شكل المدرسة الحديثة إلى نطاقنا العربي، بسبب مفاعيل الاستعمار وما تلاه، من ناحية ثانية؛ جعلا العملية التعليمية برمتها تأخذ صيغة فريدة تجمع بين النموذج المستورد ذاك، والمحتوى اللصيق بتصورنا الثقافي والمجتمعي عن إنتاج ونقل المعرفة، فأصبح المتعلم في نظمنا التعليمية مطالباً بأن يكتسب المعرفة على النحو الهجين ذاك، وأن يستظهر شفاهة أو كتابة أجزاء تختار عل نحو عشوائي واحتمالي في الغالب، من المادة المعرفية الكثيفة والشاسعة التي يُفترض أنه قد خزنها كلها في ذاكرته.

صحيح أن عملية الحفظ تقتضي قدراً من الفهم، والفهم يقتضي أيضاً بعض الحفظ، لكن التعامل مع مادة معرفية «معاصرة» جرى الاتفاق على أنها غير نهائية، وقابلة للنقد والنقض أحياناً، بنفس الأسلوب التقليدي المشار إليه، يفتح الباب على مصراعيه أمام إشكالية أعمق، تتصل في جوانب أساسية منها بتنوع أنماط وقابليات التلقي، وتفاوت قدرات الطلاب، وبالتالي جرّ عملية الاختبار نحو شكل من أشكال القسر والقهر، بقدر الضغط النفسي الناجم عن إلزام الطلاب في كثير من الأحيان على اكتساب وإبداء مهارات قد لا تتناسب في الغالب مع ميولهم، إلى الحد الذي يصبح معه الأمر أشبه بمحاسبة الأسماك على الفشل في التسلق، بصرف النظر عن أن التعليم يقتضي قدراً من ممارسة السلطة والإلزام على المتعلم في المراحل المبكرة والأساسية، وعلى الرغم من أن هذا التمثل «السلطوي» يستمر في نظمنا التعليمية إلى آخر شوط في المراحل العليا.

وهكذا تجد طرق الاختبار الأكثر تطوراً الكثير من الصعوبات لدى تطبيقها في مؤسساتنا، فالنظم من قبيل نموذج «الكتاب المفتوح»، والنمط الكندي القائم على الأسئلة القصيرة والاحتمالية، والأشغال التطبيقية، غالباً ما لا تفي الغرض حين التجاسر عليها، ويواجَه مديرو المؤسسات التعليمية ومن خلفهم صناع السياسات التعليمية بالنتائج الهزيلة للطلاب، وتتراجع معدلات النجاح، مع ما يلي ذلك من عواقب سياسية، فلا يجد أولئك المسؤولون بالمقابل غضاضة في النزوع نحو النمط التقليدي للاختبارات، في ظل استمرار نمط التلقين والحفظ، حتى وإن استغل الطلاب موجات التكنولوجيا الرقمية لتزخيم وتنويع مظاهر الغش، وحتى وإن أصبح الحديث عن ظاهرة غش الطلاب مع كل مرحلة اختبارية حديثاً جارياً غالباً.

في وجه كل هذا، يستمر ذلك النزيف، ومعه يستمر وضع يخسر في خضمه خريجو المؤسسات التعليمية؛ حيث شبح بطالة الخريجين ينتظر كل عام السواد الأعظم منهم، في حين تربح الرهان فقط الدول العربية التي شجعت منذ سنوات التعليم التطبيقي والتقني، كي لا يخسر اقتصاد التنمية بدوره، حينما لا تجد بنياته التغذية اللازمة لها، والتي من المفترض أن يمدها بها التعليم في مراحل معينة من مراحله. وضع قد يحتاج سنوات طوال كي تتشخصن المشكلة بكل أبعادها، وكي لا يُلقى باللائمة فقط على كاهل صناع السياسات التعليمية والطلاب، ويقبع المدرسون خلف التشريف المجتمعي الموروث، لاسيما أنه التشريف الذي يعفيهم على الأرجح من مغبّة وصمهم ب«الغش» لدى استعمالهم صفة الأستاذية من أجل اقتحام عوالم ومدارج الارتقاء الاجتماعي، ولو على حساب الوقت والجهد اللازم تخصيصهما لتطوير وتثمير العملية التعليمية.

* باحث وكاتب

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

باحث وكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"