الملك فيصل الأول والهويات القاتلة

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

أدرك الملك فيصل الأول (المولود في 20 مايو/أيار 1883) الذي تولى عرش المملكة العراقية في عام 1921، عمق الأزمة العراقية المتعلقة بالهوية الموحدة بعد أن حكم العراق 12 عاماً، ففي مارس/آذار 1932 وقبل وفاته بعام واحد وبضعة أشهر كتب مذكرته الشهيرة والتي تمثّل خلاصة تجربته وقد شخّص فيها «الجهل واختلاف العناصر والأديان والمذاهب والميول والبيئات» وها نحن نستعيد رؤيته بعد 100 عام على تأسيس الدولة العراقية.
وباستعارة من الروائي أمين معلوف فإن تلك الهويات الفرعية تصبح «قاتلة» إذا تحوّلت من «تطلّع مشروع» إلى «أداة حرب» وهو ما انفجر في العراق ما بعد الاحتلال الأمريكي العام 2003، وقاد إلى اقتتال أقرب إلى «الحرب الأهلية» في عام 2006 أثر تفجير مرقدي الإمامين الحسن العسكري وعلي الهادي في سامراء.
إن القراءة الارتجاعية لمذكّرة الملك فيصل الأول تفصح عن عوامل التفتّت والتشتّت والافتراق في الهوية العراقية وانعكاساتها على الوحدة الوطنية رؤية وموقفاً وقراراً. ومن استنتاجاته المهمة والمبكّرة «أن البلاد العراقية... ينقصها... الوحدة الفكرية والملية والدينية...»
ووفقاً لمنظوره لا بد من عدم الانقياد إلى «تأثيرات رجعية أو أفكار متطرفة تستوجب رد الفعل» لذلك دعا الساسة إلى أن يكونوا حكماء مدبرين وفي نفس الوقت أقوياء مادة ومعنى، غير مجبولين لأغراض شخصية أو طائفية أو متطرفة يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معاً.
ويحدد فيصل الأول الاختلافات السنية- الشيعية - الكردية، وما أسماه «الأقليات غير المسلمة»، وهو ما أطلقت عليه منظومة 9 إبريل/نيسان بعد الاحتلال مصطلح «المكوّنات» التي جرى تكريسها في الدستور النافذ (في المقدمة - مرتان) وفي المادة 9 و 12 و 49 و125 و 142، وليس ذلك سوى نظام للمحاصصة والتقاسم الطائفي- الإثني الذي قام على الزبائنية والمغانم مقتفياً أثر التجربة اللبنانية، في حين كانت مذكرته تريد تجاوز ذلك الواقع البائس، «المستعد لقبول كل فكرة سيئة بدون مناقشة أو محاكمة» على حد تعبيره، لاسيّما من «السواد الأعظم الجاهل».
ويتناول فيصل الأول، آراء المتعصبين وأرباب الأفكار القديمة الذين جبلوا على تفكير يرجع عهده إلى عصور «خوَت» وآراء الحداثيين الذين يريدون سوق البلاد إلى الأمام دون الالتفات إلى أي رأي كان للوصول بالأمة إلى المستوى اللائق طبقاً للقانون والنظام، وفرض هيبة الحكومة (الدولة) على الجميع. ولعل تلك إحدى العقبات التي واجهت الدولة العراقية منذ تأسيسها، وزاد الصراع بعد الاحتلال؛ حيث تم تعويم الدولة من جانب السلطة ومن طرف مجموعات مسلحة خارج سلطة الدولة أو باسمها، إضافة إلى مرجعيات دينية أو عشائرية أو سياسية أو حزبية أو جهوية أو غيرها، وكل ذلك ينبغي أن يخضع للدولة التي من واجبها حماية أرواح وممتلكات الناس وضبط النظام والأمن العام والتمسك بحقها في امتلاك السلاح.
إن ما حذّر منه فيصل الأول لا يزال ماثلاً للعيان، فالحكومة حسب رأيه أضعف من الشعب بكثير ويقصد بذلك امتلاك السلاح، «فلو كانت البلاد خالية من السلاح لهان الأمر، لكن يوجد في المملكة ما يزيد على 100 ألف بندقية، يقابلها 15 ألف بندقية حكومية، ولا يوجد في بلد من بلاد الله حالة حكومية وشعب كهذه». وهو ما ينطبق على حال العراق اليوم.
ويضع فيصل الأول أصبعه على الجرح حين يقول: الاختلافات الكبرى بين الطوائف يثيرها المفسدون بين المسلمين أنفسهم وبين الطوائف والأديان الأخرى، وذلك استناداً إلى «التعصّب للتفرقة بين هؤلاء الجهلاء». ويقترح الحل الذي ظل عائماً منذ تأسيس الدولة العراقية والمقصود به «المواطنة» التي تقوم على مبادئ الحرية والمساواة والشراكة والمشاركة والعدالة، وهي التي لا تزال غائبة أو منقوصة أو مشوّهة.
ويمضي في مذكرته إلى القول «فإذا لم تعالج هذه العوامل بأجمعها وذلك بقوة مادية وحكيمة معاً ردحاً من الزمن حتى تستقر البلاد وتزول الفوارق وتتكوّن الوطنية الصادقة وتحل محل التعصّب المذهبي والديني، فالموقف خطِر». ويعبّر عن ذلك بمرارة بقوله: «في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد؛ بل توجد كتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية مشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميّالون للفوضى».
وحسب استنتاجه فمن المفروض «أن نشكّل من هذه الكتل شعباً نهذّبه وندرّبه ونعلّمه» وهي المهمة التي وضعها على عاتقه، عبر جيش موحّد وقوي لأنه العمود الفقري، وذلك بإعلان الخدمة الوطنية والتعامل مع التقاليد والشعائر الدينية بمنظور واحد «ميزان واحد»، إضافة إلى عدد من الإجراءات الإدارية والتشريعية والإجرائية. فهل نعيد قراءة مذكّرة فيصل الأول؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"