الأرشيف.. فقط الأرشيف

00:19 صباحا
قراءة دقيقتين

يتبيّن لك إذا تجوّلت بين حوارات تلفزيونية أو جرائدية أو إذاعية أجريت مع شعراء وكتّاب وروائيين عرب في المرحلة الذهبية لمثل هذه الحوارات البانورامية الواسعة والعميقة، وكان ذلك في سبعينات وثمانينات القرن العشرين، أنك أمام مادة غزيرة جداً من السير الذاتية والمعلومات والقصص والمواقف التي لم تدوّن في كتب، وما زال توثيقها محدوداً في هذه الأرشيفات التلفزيونية والجرائدية والاذاعية، لا بل هناك أرشيف ثقافي بالأبيض والأسود للعديد من الكتاب العرب الكبار من روائيين ومفكرين وشعراء وفنّانين وموسيقيين سبق مرحلتي السبعينات والثمانينات مهمل ومنسي ولا نعرف عنه شيئاً على رغم قيمته التاريخية والمعلوماتية الكبيرة.
هذه قضية ثقافية وتوثيقية، فضلاً عن كونها قضية صحفية أو إعلامية من منظور ثقافي تتصل أولاً بالبحث الميداني عن هذه المادة الثقافية الأرشيفية في مخازن وحافظات ومكتبات التلفزيونات والجرائد والإذاعات تعمل في إطار مهني تخصصي.
هناك ثروة من المعلومات والسرد القصصي أو الحكائي لحيوات عشرات وربما مئات الكتّاب والفنانين والمسرحيين العرب مبثوثة في أرشيفات هرمة عتيقة قد يفكر موظف كسول في لحظة كارثية بإتلافها، فقط، لأنه لا يعرف قيمتها.
في حوار تلفزيوني قديم مع محمد رضا نصرالله تقول الشاعرة لميعة عباس عمارة إن الشرطة كانت تبحث عنها في فترة حكم سياسي عراقي شهدته وهي شابة، غير أنها تمكّنت من الاختفاء ثم الهرب ونجت من الموت، لكن الأمر المفجع الذي جرى بعد أو خلال ذلك أن الشرطة اشتبهت في فتاة أخرى واعتقدت أنها لميعة عباس عمارة، وجرى تنفيذ حكم الإعدام فيها بإطلاق الرصاص.
يذكر أدونيس في أرشيف تلفزيوني أيضاً أكثر من مرة أن خمس دقائق فقط كانت تفصله عن البقاء في سوريا أو دخول لبنان في عام 1956 حين أعلن النفير العام في سوريا من جرّاء العدوان الثلاثي على مصر.
في خمس دقائق كان صاحب «أغاني مهيار الدمشقي» قد أنهى إجراءات الدخول إلى الحدود اللبنانية، وفي بيروت قبل أكثر من ستين عاماً يستأجر غرفة صغيرة ، ومن هناك تتحوّل حياته كلها إلى «أدونيس»، والفضل يعود إلى تلك الدقائق الخمس .
الكبار، إذا سُئلوا يجيبون بكبر وكبرياء، لكن من دون غرور وتطويس (من طاووس) فقد سئل محمد مهدي الجواهري «لماذا تمدح الملوك؟»، فقال بما معناه أنهم «أهل مدح، فقد بادروا هم أولاً بإكرامي وتكريمي ومدحوني قبل أن أمدحهم، فقابلت المدح بالمديح».
في المسرح، في الغناء، في الموسيقى، في الرسم، في الشعر، في الكتابة بمعناها الإنساني الجمالي هناك توثيقات صوتية وكلامية ليست شعرية فقط، بل وتحمل أيضاً معناها الفكري والنقدي والمعرفي.
بكلمة بسيطة وليست جديدة على قارئ مثقف، الأرشيف مخزن ثقافة ومخزن تاريخ، لكن هذا المخزن سيظل مهملاً ومعرّضاً للإتلاف كأي متاع عتيق لا حاجة له، إذا لم تنتبه إليه مؤسسة تقوم في عملها المهني على فكر وضمير.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"