جينز وفِيَلَة وكتب

22:33 مساء
قراءة 3 دقائق

يوسف أبولوز

كانت مقاهي الرصيف في سبعينات، وربما نهاية ستينات القرن العشرين وحتى الثمانينات تعج بالمثقفين والكتّاب اليساريين، وثمة مقاهٍ أخرى ربما تكون في الجوار أو في الشارع نفسه تعج بكتّاب ومفكرين قوميين، أو ناصريين أو بعثيين، وفي شارع ثالث كانت أيضاً المقاهي التي يرتادها الوسطيون (إن جاز الوصف)، فلا هم من أهل اليسار ولا هم من أهل اليمين، وفي جميع تلك المقاهي كان ينتشر نوع من الكتّاب الحشريين أو الطفيليين، وهؤلاء كانوا في الواقع عيوناً، وكتّاب تقارير وأصحاب آذان تشبه آذان الفِيَلة مثل صحون لحمية لاقطة للجدل والكلام والثرثرة، كل الثرثرة المنتشرة أفقياً وعمودياً على مدى هذه المقاهي المتنوعة.

كان المثقف اليساري يُعْرَف من قميصه أحياناً أو قبّعته، القميص أحمر دائماً فوق بنطلون جينز مهترئ، والقبعة مدموغة في أعلاها بصورة جيفارا. أما مثقفو اليمين القوميون فكانوا أقل اهتماماً بالجينز تحديداً؛ لأن البنطلون الأزرق المكحوت كان يرمز إلى ثقافة الرأسمالية، ومنشأ قماشه أصلاً منشأ أمريكي، على الرغم من تلك المرونة الغزلية أحياناً بين مثقفي اليمين، والعادات الثقافية الأمريكية.

على الرغم من كل ذلك، كانت تلك الفئة اليمينية تنتبه جيداً لرمزية البنطلون المكحوت التي تحيل إلى البروليتارية، وفي كل الأحوال، لا بأس، أحياناً، من ارتداء جينز وسطي أنيق فوقه سترة كلاسيكية.

جماعة المقاهي «الثالثة» تلك، سواء من الوسطيين أو من أصحاب آذان الفِيَلة لاقطة الأفكار والأيديولوجيات اللغوية الشفوية في المقهى، كانت ترتدي ملابس كيفما اتفق، أو بحسب المهمة الموكلة ل«الفيل» في ذلك النهار أو في تلك الليلة.

بقي الشعَر، فقد كانت خصلات شعر مثقفي اليسار تتماهى أحياناً مع الشعر الغجري المجنون في قصيدة «قارئة الفنجان» لنزار قباني.

الحقيقة أن الشعر الطويل، والسوالف الطويلة، وبنطلون «الشارلستون» كانت موضة ذلك الجيل في السبعينات وبداية الثمانينات، ولنقل إنها كلها في الواقع علامات ثقافية فارقة.

لقد لجأت إلى كل هذه العلامات الثقافية على وزن العلامات «التجارية» في مجتمع المثقفين العرب في تلك العقود، لأصل إلى علامات ثقافية أخرى أهمّ بكثير من بنطلون الجينز، وقبعة جيفارا، وهي الكتب بوصفها علامات ثقافية أيديولوجية تحديداً في تلك الحقبة التي يحن إليها البعض من باب فكرة «العود»، أو العود الأبدي، وهي فكرة فلسفية، وقد تكون صوفية، لكنها ليست شاغلاً ثقافياً اليوم له وزن حنيني ثقيل، فلا أحد يندم على أيديولوجية حمراء ثبت قيصريتها اليوم وديمقراطيتها الكاذبة، كما أنه لا يمكن لأحد أن يحنّ إلى الصحون اللحمية الفيلية لاقطة الأفكار مهما كانت ألوانها: حمراء أو خضراء أو صفراء..

كانت العلامات الثقافية في تلك المقاهي «أو العلامات التجارية» تتمثل أكثر ما تتمثل في الرواية وفي الشعر، فإذا رأيت أحدهم وهو يتأبّط رواية لعبد الرحمن منيف (شرق المتوسط) مثلاً، فهو من جماعة مقاهي اليسار ذوي الجينز وذوي القبّعة «الجيفارية»، ثم إنه لأمر أليف وبالغ الشفافية الرومانسية الثورية أن ترى شاباً وسيماً طلق الشّعَر يحمل كتباً لحنّا مينة، وديستوفسكي؛ بل ترتفع وتيرة هذه الرومانسية الثورية إذا كانت معه صبيّة ترتدي الجينز والقبعة أيضاً، وتحت إبطها: أراغون، ونيرودا، ولوركا، وليرمنتوف، ومرة ثانية قد يتأكد لك صديقي القارئ، الآن، ذلك التماهي الموضوعي بين بنطلونات وقمصان وحقائب وقبّعات تلك العقود مع روايات وأشعار ونصوص وكتب محمولة تحت الإبط دائماً، في حين لا تكف دار التقدم في موسكو عن تزويد مثقفي اليسار في الشرق الأوسط بالعلف الشعري والروائي المملّح بالأيديولوجيا الحمراء.

لن أطيل، أيضاً لأصحاب اليمين علاماتهم الروائية والشعرية، وكذلك لأصحاب الوسط، وأصحاب الفِيَلة سردياتهم وعلاماتهم الأدبية.

يقول محمود درويش: «ومن اليمين إلى اليسار إلى الوسَطْ..

شاهدتُ مشنقة فقط».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"