عندما تذوب الحضارة في السعادة

00:12 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

تتراجع الفروق والرؤى بين الشباب والشابات في العالم. هذه الجملة تحمل الكثير من التحدي لدولنا أولاً وللحكام والمفكرين الذين يجلدون أنفسهم وأوطانهم وثقافاتهم إلى درجة تكاد تشعر معها وكأن النقائص ملازمة أبداً لأشكالهم ولثقافاتهم ودولهم، وهذا غير صحيح. هذا النص هو حصيلة مناقشات رصينة مع طالباتي وطلابي الذين يتأهبون لمناقشة أطاريحهم نيلاً للدكتوراه في علوم الإعلام والتواصل الاجتماعي والسياسي. جهزته، وطالبوا بإهدائه عبر صحيفة «الخليج» إلى مارك زوكربيرج الرئيس التنفيذي لفيسبوك، بعدما أعلن في 28 أكتوبر 2021 تغيير اسم «فيسبوك» إلى «ميتا»، مبشراً «بحضارة افتراضية جديدة في تواصل البشر».

سؤال: من يرشدنا اليوم إلى معنى الحضارة أو هويتها، أو يأخذنا إلى تلك الدولة أو مجموعة الدول التي يمكنها امتلاك أو ادعاء الحضارة؟ الكلمة قديمة تسترجعها الشعوب لكنها أُفرغت من مضامينها وصارت وهماً معاصراً، ليس العمران والتماثيل واجترار الموسوعات «المتشاوف» فيها بقوة القديم هو الحضارة. علينا تعريتها.

تأخذنا الأسئلة مثلاً نحو الحضارات الهندية والفرعونية وبلاد الرافدين والهيلينية والرومانية، والفارسية والبيزنطية، ثم الحضارة المسيحية الأوروبية المدموغة بحضارة الأندلس الإسلامية. وماذا بعد؟

نحترم الحضارات القديمة لكننا خارجها بعدما اكتست الدنيا بالثقافات؛ أعني الحضارات التواصلية الحية، لا الميتة المختلفة. سقنا الثقافة هنا بمعناها العام؛ أي بالمأكل والملبس والنوم وأساليب الحياة الاجتماعية المتقاربة بالشكل والعقل والفنون وسعادة المجتمعات البشرية في عصور الفضاء، وكأننا نشهد معاً ومن كل الأجناس والألوان والجنسيات، لحظات رائعة واكتشافات يومية لامتناهية لأصدقائنا من شعوب الأرض الواسعة.

أطرح سؤالاً ثانياً، ماذا تعني لكم كلمة حضارة اليوم؟ وهي ليست بعيدة؟ 

قالت: عندما نقرأ ونشاهد ونشارك دبي معرضها العالمي، مثلاً، ونرى عنواناً ليس حبراً؛ بل واقع، بأن العالم كله في دبي أو في الخليج ولبنان أيضاًَ، ماذا تُرانا نشعر كشباب عرب أو من أنحاء العالم كله؟ السعادة الكلية المعاصرة. إنها الموضة والمعاصرة. هذه هي الحضارة التي لم تعد جامدة؛ بل دائمة الحركة والجذب.

هكذا نعيش متعاً وفرحاً؛ بل دهشة كل الأجيال من أنحاء الأرض بثقافات تتداخل وتتقارب وتتزاوج وتسافر، وربما تتزاوج وتتناسل وفقاً للزمان والمكان والإمكان وهو الأهم. تسخير الثروات والمال للإبداع والإسعاد. تركض الأجيال اليوم نحو العصر والمعاصرة ولو لم يُعجب التقليديون. هي قوة الظاهرة يتساوى فيها الصناعيون والمستهلكون في العالم. المستهلكون ضوء الحضارة وبريقها العالمي. تشتري غرضاً بمليون وتشتريه تقليداً بقرش مثقوب فيبدو مقبولاً جماهيرياً، وأفضل من المليون في حركة الأسواق. يلهث الصانع اليوم خلف المستهلكين. الأغنياء أو كبار المستهلكين يجذبون بثقافاتهم وكتاباتهم وصورهم عبر الشاشات بقدرات إقناعية هائلة. يفرضون الصناعات التي تروق لأذواقنا وأمزجتنا وأقيستنا ويعبرون نحو «الصناعة على القياس». أمثلة عابرة:

هذا فستان لم ولن يرتديه غيرك في الدنيا سيدتي.. هذه السيارة أو الطائرة أو اللوحة لك وحدك في الدنيا. لعبة تحولات فرضتها ديناميات الكساد والفساد ولم يعد مسموحاً عدم اقتراننا بالثقافة المتطلعة دوماً إلى الطرق المفتوحة الجديدة، بروائحها وأفكارها ومناظرها. يرى الشباب أن أفكارهم خلعت تلك النظريات الجامدة القديمة بين الثقافات بالحضارات، ودفعتها حضارة التواصل الاجتماعي إلى حدود ذوبان الحضارة في مستنقعات إنتاجية للشعوب وبهجتها، وصرف ثرواتها بدلاً من تنافس الأغنياء على عقد تكديس الثروات وقوائم الأغنياء في وسائل الإعلام.

قالت: كنت أذهب إلى باريس أو لندن.. فينتابني شعور بالدونية أحياناً، والإشفاق أحياناً على البؤس والانتحارات البطيئة الظاهرة في المدن الزاهية العظيمة و«المتوحشة» التي لا تنام ولا تهدأ. 

هذه المدن مأهولة بخليط هائل من جنسيات الأرض الراكضة مثل الجرذان في الأنفاق والساحات خلف لقمة الأكل. سحبونا جميعاًَ ركضاً وقلقاً نحو الاتصال بالآخر، سواء أكان من جنسك أم لا، مدفوعين باستبدادية لذيذة لتلك الرغبات الرقمية في الزجاجات الصغيرة المضيئة.

لنقل معاً، إن عصر العولمة والإلكترونيات والشهرة والتواصل و«اليوتيوب»، يكنس الحضارات القديمة العالية للسباحة في الثقافات المتنوعة الغريبة الجميلة والباهرة في أقاصي الأرض. يجب التصالح مع التكنولوجيا السهلة التي منحت الإنسان المعاصر، الملامح الرقمية العالمية دائمة التجدد.

الحضارة سماء مفتوحة لا للأنظمة؛ بل للبشر لتكثيف المشترك بينهم، خصوصاً بعدما أخفقت الأفكار والحضارات والفلسفات القديمة، ثم الأديان، وبعدها العلوم والتكنولوجيات العسكرية في جمع شمل البشر. صارت الدنيا سوقاً «أون لاين»، ومعرضاً تحت الوسائد وحاجة بشرية جديدة تسابق الهواء والماء والغذاء، والنوم والجنس، في عالم رائع من الرموز والأرقام والأصوات والنصوص والصور المكتوبة والمنطوقة، تقوده الصدف والعشوائية و«المشاعية».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"