كيف نبني وطناً في المستنقعات؟

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

نقرأ معاً ملامح حبر التخبط السياسي العريق في الطائفية كي يبقى الحبر صادقاً وأميناً لحريّة الأسماك الأولى في إعلان الحرية. هل هناك كائن غير السمكة التي نعصرها حبراً أكثر حرية في حركة الكائنات الكثيرة التي خلقها الله على وجه الأرض؟ وماذا تراه يفعل المحيط أو البحر بكائناته وأسماكه؛ إّذ يلوّث البشر الماء، غير شيوع الموت الصامت اختناقاً عبر المياه؟

 الناس في أوطانهم التي تدّعي الحرية في الكتابة والقول باسم الديمقراطية، قد تخنقهم مياههم، عندما تتلوّث أوطانهم بالطائفيات والاعتداءات، فيُنبذون ويخنقهم التلوث في التعبير والسلوك.

 تبسط الطوائف في لبنان مجدّداً خيمها فوق بقايا النيران المشتعلة في الشرق الأوسط، وتعيد إحياء وطن هوائي صغير ممطوط بين الشرق والغرب، ومع أوّل هبة ريح أخشى السقوط رمّةً من فحمٍ كابدناه طويلاً لا يصلح حتى لبرودة الرماد؛ بل لطمس معالم الطريق.

 أمس، كان اللبنانيون يتحلّقون حول الميثاق الوطني، وعيونهم تبحث عن البلاهة، ولما حلّ الصباح، كانت نصوصهم وأولادهم حطباً محروقاً للمستنقعات المتهالكة أمام أرصفتهم وساحاتهم.

 تستمرّ الطائفة الأولى التي تعد نفسها المالكة للبنان تحضن عيسى بن مريم في مذودٍ من بيت لحم. جمعوا وطناً من قصبٍ مختلف ومتناثر المواقف والزعامات، وداروا خلف بطرس في العالم. إن نفد قصبهم، يشحذون عظامهم عكازات لاجتياز الطريق، دفاعاً أبدياً عن بكارة ثوب لبنان الأوّل. ترقد ألسنتهم وعظمتهم تحت سترة الباباوات، بينما قدّيسهم يبقى واقفاً على الرصيف يشتاق إلى حضنه البكر في الشمال السوري.

 ويعشق أبناء الطائفة الثانية الرحيل نحو الكروم البيزنطية في خلد بوتين، وقد تجمّد تاريخهم فوق شفتي يوحنا الذهبي الفم في رحلتيه نحو الغرب صيفاً وشتاءً، وهم ما برحوا ينبشون مناجم من حضاراتٍ تتوالد ولا تنتهي، لكنها تشيخ كلّها في نهاية المطاف، وتقف عند أرصفة التاريخ وهوامش الكتب والمعاجم. هم الذين قلعوا الحجارة الأولى للكنيسة الأولى في الشرق العربي، وما كانوا إلاّ على رصيف السياسة في حياتهم.

 ويعيش أبناء الطائفة الثالثة على شيم الصحراء ويقيسون أنظارهم بملايين السنين الضوئية. الإمبراطوريات كلّها بنظرهم بما فيها التركية والفارسية وحتّى الجديدة، تغيب عنها الشموس إن طغت وتركن قطعاً إلى الظلام. يملّح أبناء هذه الطائفة ألسنتهم ونصوصهم برمل الصحراء. يصطفون مثل حبّ الرمل والتاريخ أوّله وآخره رمل لن يفهم أسرار علاقاته غرب، ولو ساعدهم على جعل الصحراء رياضاً تتجاوز اليمن السعيد العتيق.

 يحشر أبناء الطائفة الرابعة في ضلوعهم كنوز السماء وخير الصحراء، خوفاً عليها من برد وطغيان. هم سرّ الشرق وسحره، وشهدوا عناق اللونين الأزرق والبني المذهّب. هندسوا التوحيد وأخفوا أسراره في تجويفة رأس عجلٍ. ولا بدّ من التخفّي في اللسان، ولا تنكسر فيه القاف، ففي تلالهم تبني الشمس أعشاشها، وتضع بيضها الذي لا يسطع إلاّ فوق نصّهم المجهول.

 يحمل أبناء الطائفة الخامسة الجبّة الملطّخة بالدماء يشهرونها في وجه الكون إلى الأبد. فالمستقبل للكثرة كما يتصوّرون ويصدقون، وهم أصحاب حقٍّ يرونه خاتماً لحمياً ينزلق في خنصر العالم في الغرب والشرق وإلاّ التساوي معه والتهديد بالنوويات. 

 هذا هو تاريخنا يا سادة. طوائف أو كلمات نقشناها في أساس وطننا.

هناك «طائفة» سابعة كبيرة مثلك واقفة على الرصيف، حاولت النزول إلى اليم لكنّ التلوّث كان قاتلاً. إنه الوطن الحر اللاطائفي الشبابي، يسقطونه للمرّة الجديدة الألف، وكلّما أسقطوه سيسقط الوطن برمته مرّةً جديدة لتفرّخ المذاهب مرّات ومرات فتتجاوز ال11 طائفة جديدة.

لو أوقفنا النقش قليلاً على الجدران، ورحنا نتسلّى بأحرف طوائفنا الأولى كما الأطفال برمال الشاطئ، ماذا نجد؟ كلمات مثل: دم، شك، سم، شد ومشاكسة.

 كيف نبني إذن في هذه المستنقعات التي لم تعرف الجفاف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"