الإمارات.. و«أنسنة» العلاقات الدولية

00:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.إدريس لكريني

تحيل الدبلوماسية في الوقت الراهن، إلى مجمل العلاقات التي تربط الفاعلين الدوليين، في إطار القانون الدولي والمواثيق والمعاهدات الدولية، بصورة تدعم تعزيز وتطوير العلاقات الدولية في مختلف المجالات والميادين.
 وإن المجال الدبلوماسي هو شأن سيادي تمارسه الدول عبر قنواتها الرسمية، غير أن تشابك العلاقات الدولية وتعدّد الفاعلين، وتعقد المصالح والقضايا والأزمات الدولية وضعت السياسة الخارجية للدول أمام محك حقيقي، كلها عوامل فرضت عقلنة أكبر، ومشاركة أوسع في إرساء دبلوماسية منفتحة، بالصورة التي تضمن نجاعتها وعقلنتها و«دمقرطتها»، وتحقيقها للأهداف والمصالح، ما فتح الباب أمام ظهور الدبلوماسية الموازية التي تقودها مختلف الفعاليات من أحزاب ومجتمع مدني وجماعات إقليمية، وجامعات ومراكز علمية.
 وتؤكد الممارسة الدولية أن المواقف والسلوكات الخارجية للدول، تظلّ بلا معنى، بل مجرّد شعارات لا قيمة لها من المنظور الاستراتيجي في غياب مقومات عسكرية ومالية وسياسية وثقافية تدعمها ميدانياً، ويمكن القول إن الدبلوماسية الفاعلة هي القادرة على تحويل عناصر وإمكانات القوة المتاحة والمتوافرة، إلى قوّة فعلية على مستوى الواقع، وتوظيفها بصورة مشروعة على المستويين، الإقليمي والدولي، لتحقيق مختلف الأهداف، وفي التأثير في عملية صنع القرار الدولي.
 وجدير بالذكر أن وظيفة الدبلوماسية في الوقت الراهن، لم تعد مقتصرة على نسج وتعزيز العلاقات التقليدية بين الدول، كما كان في السابق، بل أصبحت تستأثر بمجموعة من المهام والمسؤوليات الأخرى، كتدبير الأزمات المختلفة، وجلب الاستثمارات، وتشجيع السياحة، وتعزيز المصالح العليا للدولة، وكذا المساهمة في تعزيز السلم والأمن الدوليين.
 ولعل الدور الذي تقوم به دولة الإمارات على الصعيدين، العربي والدولي، يعتبر نموذجاً لفاعلية الدبلوماسية الإيجابية في منحى العلاقات الدولية.
 ومن هذا المنطلق، أضحت الدبلوماسية في ظل تشابك العلاقات الدولية، فنّاً وعلماً في الوقت نفسه، فهي لا تحتاج إلى أساس قانوني يدعمها فقط، ولكن إلى كفاءات أيضاً، تستوعب التحولات التي شهدها العالم، وتجيد التحرك في عالم مملوء بالإشكالات والتحديات.
 ويوماً بعد يوم، تؤكّد الممارسات الدولية أن المكتسبات التي حققها العالم على مستوى تجسير العلاقات بين الدول، وتشبيك المصالح، وإحداث عدد من المؤسسات الدولية، لم تكن كافية لتحقيق الكثير من الرهانات، ومنع تنامي وانتشار المخاطر والتهديدات التي تواجه الإنسانية جمعاء في أبعادها البيئية والرقمية والإرهابية والوبائية.
 وقد تزايدت القناعة لدى الكثير من الباحثين والمفكرين بأن القوة «الخشنة» في علاقتها بالمقومات العسكرية والزجرية الأخرى تبقى مكلفة، وغير ناجعة في تحقيق الأهداف الاستراتيجية للدول، ما يطرح أهمية استحضار آليات القوة «الناعمة» التي تقوم على الإغراء والإقناع، بدل الإكراه والزجر، واستثمار مختلف القنوات الثقافية والفنية والروحية والعلمية والفكرية والمساعدات التقنية والإنسانية. ويتعلق الأمر بمفهوم طرحه الباحث الأمريكي «جوزيف ناي الإبن»، ضمن كتابه الصادر في عام 1990، والموسوم «مُقدرة للقيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية»، قبل أن يطوره في مؤلفه الصادر عام 2004 تحت عنوان «القوة الناعمة.. وسيلة النجاح في السياسة الدولية»، أكد فيه أن القوتين، الصلبة والناعمة، مترابطتان، لأنهما معاً كفيلتان بتحقيق الأغراض بالتأثير في سلوك الآخرين.
 وفي هذا السياق، وبالنظر إلى ارتباط الفكر والمعرفة والفنون بترسيخ قيم ومبادئ راقية، تعزّز الحوار والتواصل بين الشعوب، وتحول دون تفشّي الحروب والصراعات والأزمات، وباعتبارها (الفكر والمعرفة والفنون) تعبيراً عن المشترك الإنساني بصورة تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية، برزت الدبلوماسية الثقافية التي تحيل إلى نشر وتقاسم المعرفة والمعلومات والأفكار ومختلف المنتجات الفكرية والفنية، وهي، وإن أخذت طابعاً مؤسساتياً في العقود الأخيرة، بعدما أصبحت الكثير من الدول تعتمد على مخرجات مراكز الأبحاث والجامعات في صناعة سياساتها وعقلنة توجهاتها في عالم متحول، فهي قديمة، برزت ملامحها مع تطور الحضارات التي كان لمنجزاتها الفكرية والفلسفية أثر كبير في تطور الإنسانية.
 كما كانت الدبلوماسية الثقافية حاضرة في قلب صراع الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، على امتداد ما يربو من نصف قرن، غير أن هذه الدبلوماسية ستعرف تطوّراً كبيراً خلال العقود الأخيرة، مع تخصيص بعض الدول، كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا والصين، إمكانات مالية كبيرة في هذا الخصوص، وإحداث مراكز ومعاهد تروّج لثقافاتها وحضاراتها على المستوى العالمي.
 وعلى المستوى الدولي تستأثر «اليونيسكو»، باعتبارها وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، بدور مهم على مستوى إرساء السلم والأمن الدوليين، من خلال تعزيز التعاون الدولي في مجالات التربية والتعليم والثقافة.
  وتدعم الدبلوماسية الثقافية الدفاع عن مصالح الدول بسبل راقية بعيدة عن التحايل والخداع والتحريض والعنف، وهي تنحو بذلك إلى إرساء صورة حضارية للدول في محيطيها، الإقليمي والدولي، بشكل يدعم جلب السياح والاستثمارات الخارجية، ويحسّن صورتها في الخارج، كما أنها تمثّل رافداً لتعزيز الثقة وتطوير العلاقات بين الدول وإعطائها بعداً إنسانياً.
 وتتزايد الحاجة إلى توظيف الثقافة كمدخل لإرساء سلام عالمي مستدام كفيل بتذليل العقبات بين الدول، وتعزيز التواصل بين الشعوب، في ظل المخاطر المتنامية التي تواجه الإنسانية جمعاء، وعجز الآليات التقليدية عن كسب هذا الرهان الذي يسائل الباحثين والمفكرين، والجامعات ومراكز الأبحاث، والقطاع الخاص.
 فرغم أهمية التشريعات والمواثيق الدولية الداعمة لحفظ السلام واحترام حقوق الإنسان، إلا أن الواقع الدولي يؤكد حجم النزاعات المسلحة المتفشية، والتهميش الذي يطال القضايا الإنسانية ضمن أجندة السياسات الدولية.
 إن كسب رهانات هذه الدبلوماسية تبدو مهمة للغاية، إذا استحضرنا الدور المؤثر للثقافة داخل المجتمعات، على مستوى تجاوز الإشكالات والخلافات السياسية، وطرح مداخل ومرتكزات لتجاوز الأزمات والصراعات، بصورة حيادية تدعم التواصل والسلم.
 ويبدو أن الظرفية الدولية الراهنة، تستوجب أكثر من أي وقت مضى، توظيف المجتمع الدولي للدبلوماسية الثقافية، في سبيل ترسيخ علاقات دولية بحسّ إنساني، تدعم تحقيق التنمية، وتوازن بين تحقيق الأمن من جهة، واحترام كرامة الإنسان، من جهة أخرى.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"