كل هذه الهستيريا!

00:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

بعد أن تتوقف الحرب في أوكرانيا وتسوى بالتفاوض الأسباب التي أفضت إليها، فإن التغطيات الغربية التي صاحبتها سوف ينظر إليها ك«صفحة سوداء» في تاريخ الإعلام الغربي.

 انتهكت كل المحرمات المهنية، الأصول والقواعد، التي ترسخت على مدى عقود طويلة حتى اكتسبت صفة «درة التاج» في الحضارة الغربية الحديثة.

 الحريات الصحفية تلخص الحريات العامة كلها. إذا انتكست يستباح كل معنى وتنتهك كل قيمة.

 في أحوال الهستيريا التي ضربت الإعلام الغربي كادت تنتفي أية فوارق مع إعلام الصوت الواحد، إعلام الحشد والتعبئة، الذي تعانيه روسيا ودول العالم الثالث.

 أسوأ ما قيل في تسويغ مصادرة الرواية الأخرى بالإجراءات المتعسفة أن هناك إجراءات مماثلة ترتكبها روسيا تمنع وتجرم وتقضي بعقاب كل من يشكك في الرواية الرسمية.

 في سنوات الحرب الباردة نشأ ستار حديدي يفصل بين عالمين. كانت حرية الصحافة أبرز نقاط قوة التحالف الغربي، الذي تقوده الولايات المتحدة في مواجهة التحالف الآخر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق. خسرت موسكو حرب الصورة، وكان الثمن مؤلماً.

 أمام الهستيريا الإعلامية الحالية: هل نحن بصدد خسارة أخرى فادحة تنال هذه المرة من الولايات المتحدة والتحالف الذي تقوده في نظام عالمي جديد يوشك أن يولد؟

 الهستيريا الإعلامية تلاحق هستيريا عسكرية بالتحرش الزائد مع موسكو وهستيريا سياسية تقامر بمستقبل البشرية على حافة حرب عالمية مدمرة. فيما هو إعلامي تكاد قواعد وقيم العمل الصحفي والإعلامي المتعارف عليها دولياً أن تتبدد.

 هذه رسالة سلبية إلى العالم الثالث، الذي ننتمي إليه ونعيش فيه، بأن إعلام الصوت الواحد لم يعد مداناً ولا خروجاً عن العصر.

 إذا كان ممكناً فرض وصاية على القارئ والمشاهد الأوروبي، فإن الوصاية سوف تكون مضاعفة هنا. بوسع أشد النظم ديكتاتورية في العالم الثالث أن تزعم الآن أن انتهاكاتها «قانونية» هي الأخرى.

 باسم حماية الرأي العام الأوروبي من الدعايات الروسية الموصومة بالكذب وتزوير الحقائق منعت وسائل إعلام ك«RT» و«سبوتنيك» من البث داخل القارة.

الوصاية على الرأي العام لا إخباره بحقائق ما يجري في قارته أخطر تطور سلبي في تاريخ الإعلام الأوروبي منذ نهاية الحرب الباردة.

 خرقت وسائل التواصل الاجتماعي أية قواعد سياسية وأخلاقية تمنع التحريض على العنف والقتل وبث أجواء الكراهية.

 أوغلت أعرق المؤسسات الصحفية والإعلامية في ارتكاب الجرائم المهنية كالخلط بين الخبر والرأي وافتقدت الحد الأدنى من الحيادية في تغطية الحرب.

 الحيادية لا تعني أن تقف على مسافة واحدة من المتنازعين في الحرب، لكنها تعني أن يكون الفصل بين الرأي والخبر واضحاً وصارماً، أن يجري التحقق من صحة الأخبار وفق القواعد المتعارف عليها، أو ألاّ يجري التدليس على جمهور القراء والمشاهدين بفيديوهات مفبركة وادعاءات غير صحيحة.

 بصورة أو أخرى فإننا أمام إعلام حربي، البيانات تنقل مباشرة من مقر البنتاغون، كأن الدول الأوروبية والولايات المتحدة نفسها أعلنت أنهم قد دخلوا الحرب، فيما تصريحات قادة الغرب و«الناتو»، تؤكد مرة تلو أخرى أنه لا توجد أية نية لخوض حرب مع روسيا.

 «الخبر ملك القارئ والرأي ملك كاتبه والإعلان ملك صاحبه». هكذا صاغ الأستاذ أحمد بهاء الدين، أحد أسس الصحافة الحديثة التي تحظى بإجماع مواثيق الشرف.

من حق الرأي العام أن يعرف حقيقة ما يحدث على جبهات القتال، أسبابها وتداعياتها، ما حسابات الغرب و«الناتو»؟.. وما حسابات الطرف الروسي؟

في خمسينات القرن الماضي تعقب السيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي، كل من يشتبه أنه «شيوعي»، أو يتبنى أفكاراً تخالف السائد الرأسمالي.

 كانت تلك حملة ضارية على الثقافة والمثقفين ونوعاً من الإرهاب الفكري تبرأ منه مجلس الشيوخ تالياً.

 ما يحدث حالياً يتجاوز بكثير «مكارثية» القرن الماضي، فالتعقب هذه المرة يشمل كل ما هو روسي بذريعة الانتقام من فلاديمير بوتين، لا عشرات ومئات المبدعين والمفكرين الأمريكيين بذريعة حصار «الشيوعية».

 كان حرمان الرياضيين الروس من المشاركة في البطولات الأولمبية، واستبعاد منتخبهم من تصفيات كأس العالم لكرة القدم 2022، خروجاً فادحاً على القيم الأوليمبية والرياضية التي تمنع الخلط بين الرياضة والسياسة.

 يمنع ويجوز الخلط حسب المصالح السياسية! الهستيريا وصلت إلى مقاطعة الموسيقى الروسية والأدب الروسي وكل ما يمت لروسيا بصلة في حملة لا يمكن تقبلها بأي منطق إنساني وأخلاقي.

 كان الإعلام طرفاً مباشراً، بصيغة أخرى أداة نافذة، في التحريض على الروس ك«روس» وشيطنتهم كأمة مارقة، دون أدنى محاولة لتفهم أسباب الأزمة وخلفيتها ومدى شرعية المخاوف من وصول حلف «الناتو» إلى حدودها المباشرة.

 بذات القدر كان الإعلام الغربي طرفاً مباشراً في التحريض على التمييز العنصري وفق لون البشرة والدين وتقويض أية فرصة جدية للتفاهم بين الثقافات والحضارات المختلفة.

 إذا كانت ازدواجية المعايير الإنسانية والقانونية في النظر لقضايا اللاجئين والنازحين حسب العرق والجنس والدين شائعة ومقبولة، فإن المظلومية العربية قد تعبّر عن نفسها بصورة عنيفة في بيئة اجتماعية وسياسية جاهزة للتفجير.

 المأساة الحقيقية في القصة كلها أن الهستيريا الإعلامية والسياسية، التي صاحبت الحرب الأوكرانية، لن تنقضي آثارها بعد أن تنتهي الحرب، وسوف تدفع الولايات المتحدة وأوروبا أثمانها الفادحة وندفع نحن أثماناً مضاعفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"