بصورة قياسية ارتفعت أسهم دونالد ترامب في العودة إلى البيت الأبيض.
لم يبدِ استعداداً لمراجعة سياساته ومواقفه، التي أفضت إلى خسارته الانتخابات السابقة، لكنه يقترب من حصد الرئاسة مجدداً.
تقوضت فرص الرئيس الحالي جو بايدن في تمديد رئاسته لدورة جديدة بثلاث ضربات متتالية.
كان أداؤه الباهت في المناظرة الرئاسية ضربة أولى أثارت مخاوف واسعة داخل حزبه الديمقراطي في مدى أهليته، الإدراكية والجسدية، لقيادة الولايات المتحدة.
وجاءت الضربة الثانية من المحكمة العليا الأمريكية، وأغلب قضاتها جمهوريون، حيث حصّنت أفعال ترامب من الملاحقة القضائية «طالما جرت في نطاق صلاحياته الرئاسية».
ثم جاءت عملية اغتياله الفاشلة لتحسم مستقبل بايدن، وتجعل من انسحابه لمصلحة مرشح ديمقراطي آخر قراراً شبه محتم، وإلا، فإن الحزب سوف يلقى هزيمة مزدوجة في الانتخابات، الرئاسية والتشريعية، معاً.
صورة ترامب، وهو يلوّح بقبضة يده اليمنى، إثر محاولة اغتياله، أضفت عليه صفة الشجاعة في مواجهة الخطر، والتصميم على المضي في التحدي، أياً كانت الأخطار، فيما بدا بايدن متعثراً في صعود سلم طائرة.
تبدت مفارقتان في مشهد محاولة الاغتيال، الأولى، أنه كاد يدفع حياته ثمناً لتحالفه مع «لوبي السلاح»، الذي يرفض وضع أية قيود صارمة على إتاحته في الأسواق كأي بضاعة أخرى.. والثانية، أن المشتبه فيه توماس ماثيو كروكس شاب عشريني جمهوري، ويهودي، يفترض أن يكون مؤيداً لترامب، من دون أن تستبين أسبابه ودوافعه، فقد قتل في المكان، وأسدلت على الحقيقة ستائر الصمت المطبق.
بدت إصابته طفيفة، لكنها كانت كافية لتحدث تغييراً جوهرياً على المسرح السياسي الأمريكي، ويصبح شبه مؤكد أنه في سبيله للعودة إلى البيت الأبيض، إذا لم تحدث مفاجأة كبيرة في الشهور المتبقية على الانتخابات الرئاسية.
لم يتغير ترامب، ولا تعدّل خطابه تجاه المهاجرين والأقليات، وفي الذاكرة التظاهرات والاحتجاجات التي عمّت الولايات المتحدة إثر مقتل الأمريكي الأسود جورج فلويد على يد شرطي أبيض أمريكي، ونشوء حركة «حياة السود مهمة».
ولا تغيّرت نظرته إلى الحريات الصحفية الإعلامية، وفي الذاكرة صداماته المتكررة مع شبكة ال«سي. إن. إن»، وصحيفتي ال«واشنطن بوست»، وال«نيويورك تايمز».
كان مشهد اقتحام مبنى الكونغرس لمنع اعتماد نتيجة الانتخابات الرئاسية (2020) تهديداً للديمقراطية الأمريكية.
لا اعترف بخطيئة التحريض، ولا اعتذر عنها، ولا تعهد بقبول نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة إذا لم تأت لمصلحته.
دواعي القلق ما زالت ماثلة في التفاعلات الأمريكية، رغم اللهجات التصالحية التي أعقبت محاولة اغتياله الفاشلة.
لم يتغير ترامب، لكن العالم تغير. الأزمات والتحديات اختلفت، طرأت حروب دامية في أوكرانيا وغزة.
النظام الدولي الذي تركه مترنحاً بأثر جائحة «كورونا» وسياساته الانعزالية يكاد أن يكون الآن أقرب إلى ركام يقطع طريق المستقبل.
وأدت إدارته الكارثية للجائحة إلى تراجع فادح في هيبة بلاده، وقدرتها على قيادة العالم.
تبدّت فجوات وفواق داخل التحالف الغربي. ولم تمد إدارة ترامب يد المساندة لدول أوروبية حليفة، كإسبانيا وإيطاليا اللتين تضررتا بقسوة بالغة من ضربات الجائحة.
وفي أجواء الجائحة طرحت الأسئلة الكبرى: ما معنى التحالف الغربي.. أو أن تكون الولايات المتحدة قيادته إذا ما أدارت ظهرها لمعاناة الشعوب الأوروبية؟
بقدر مماثل، طرح سؤال مستقبل الاتحاد الأوروبي على السجال العام. كان صعود ترامب بنزعته الشعبوية المعادية للمهاجرين والأجانب عام (2016)، داعياً لتمدد الظاهرة نفسها في أنحاء مختلفة من القارة الأوروبية.
«الترامبية المستأنفة» هذه المرة تلاحق موجة شعبوية جديدة اكتسحت انتخابات البرلمان الأوروبي، وكادت تهيمن على الجمعية الوطنية الفرنسية في أكبر انقلاب على قيم الجمهورية.
وفي سنوات حكمه لم يخف مناهضته للاتحاد الأوروبي وتشجيعه لخروج بريطانيا منه.
وعلى رأس تحدياته الآن أسئلة مستقبل الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو». وحسب تعهداته الانتخابية فإنه مستعد لوضع حد للحرب الأوكرانية بأقرب وقت.
والسؤال الجوهري: ما الترتيبات اللاحقة؟ الأسئلة تقلق الأوروبيين من دون إجابة، أو شبه إجابة.
لعل ذلك التوجه هو النقطة الإيجابية الواضحة في خطط ترامب للمستقبل، لكنها تتوقف عند الشعارات العامة من دون استيعاب حقيقي لحجم المتغيرات الأوروبية التي أعقبت خروجه من البيت الأبيض.
«الناتو» يبدو متماسكاً، لكنه غير متيقن من مستقبله مع «الترامبية المستأنفة» التي ترفع شعار: «الدفع مقابل الأمن»، وتريد أن تعممه في الشرق الأوسط، وتايوان.
ماذا بعد الحرب على أوكرانيا؟ ما مستقبل «الناتو»؟ وهل الأجدى المضي قدماً في بناء منظومة دفاعية أوروبية بعيداً عن الولايات المتحدة؟ التساؤلات تدخل في صميم بنية النظام الدولي، والإجابات كلها معلقة.
ورغم انحيازاته لإسرائيل فإنه لا يمكن تجاهل التغيرات الجوهرية على مسارح الصراع في الشرق الأوسط، إثر السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023). لا يمكن القفز فوق حرب الإبادة، وملاحقة جرائم الحرب أمام محكمتي «العدل الدولية»، و«الجنائية الدولية».
كما لا يمكن القفز فوق تصويت الكنيست، بأغلبية كبيرة، على رفض قيام دولة فلسطينية بأحاديث تستعيد إعادة تلخيص القضية الفلسطينية في مساعدات، وإغاثات، بعدما أكدت نفسها بالدماء الغزيرة، والبطون الخاوية. إنها قضية تحرر وطني، أولاً وأخيراً.. هذه معضلة يصعب على «الترامبية المستأنفة» تجاوزها.