الاحتفالية الانتخابية الضائعة

00:26 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. نسيم الخوري

قد يتمكّن بقايا اللبنانيين متراقصين بين قوّة التقليد ولفحة التجديد، من انتخاب 128 نائباً من بين 1043 مرشحاً بينهم 118 سيدة انضووا مذهبيّاً وفقاً للطراز اللبناني الفريد في 103 لوائح للذهاب ربّما في 15 أيّار/مايو المقبل إلى 7000 مركز اقتراع موزعة على 15 دائرة انتخابية. رُصد لهذه الاحتفالية 295 مليار ليرة لبنانية أي 12 مليون دولار أمريكي وفقاً لأسعار السوق السوداء. باشرت مقالي ب«قد»، لأنّ لغماً فلح أرض الاحتفالية بالقول إنّ الدولة قد لا تتمكّن من تأمين الكهرباء أكثر من أربع ساعات ونصف الساعة في اليوم، فيركض الجواب بأنّ المبلغ المرصود للاحتفالية المذكورة سيرتفع إلى 16 مليون دولار، لأنّ وزارة الداخلية قد ترصد عندها مولّدات خاصة تؤمّن الكهرباء 24/24.

 هذه الانتخابات المحكومة مذ بدأت بأنها «قد تحصل وقد لا تحصل» تتجاوز الكهرباء إلى سلسلة من الكهارب الأخرى التي لا يمكن تعدادها وتفصيلها من التلاعب والتقاتل والتطاول المذهبي، إلى التنازع على مستقبل لبنان ودساتيره وأمزجة أحزابه وتضارب المصالح واجتراح القوانين الانتخابية المُبهمة التي توفّق بين الناقض والمنقوض والقاتل والمقتول لأنّ التغيير قد يأتي من صناعة الغير.

 حزينة وقهّارة وغريبة تلك الاحتفالية وكأنها المأتم يدخلها بقايا اللبنانيين الذين صار أولادهم وأحفادهم في بلاد الغير الواسعة أو في جحور الذل والفقر وأكوام القمامة. خرجنا من الباب الذهبي لجمهوريتنا الأولى المستوردة فرنسيّاً محفوفةً بالمحامين ورجال القانون إلى الجمهورية الثانية التي مارسها وخبر عجينتها وعاين أمراضها الكثيرة المزمنة جمهرة لا يستهان بها من الأطباء ورجال الأعمال وتجار أصحاب الوكالات الحصرية، وكأننا بلبنان خرج يومها من العدليات إلى المستشفيات ومن الركض في الباحات إلى القعود فوق الأسرّة، ومن الصراخ بالتغيير إلى قتل التغيير واحتقار الغير، وكلّ هذه التجارب المرة تاريخياً، لم تسلم بل تضافرت جروحها السياسية المزمنة المنتفخة بوحول المذهبية والفساد والضياع والجهل.

 الجهل الشامل، إذ يمكن تحدّي اللبنانيين المتحمسين للانتخابات وحتى بعض المرشحين إلى أي طائفةٍ انتموا أن يشرحوا للناس معانى وفلسفة القانون التفضيلي المعتمد في اختيار البرلمان الجديد. يختصر الدكتور بشارة حنّا في مسحٍ إحصائي بالقول: «إنّها كارثة تتكرر، لأنّنا توصلنا إلى أن 91% من الناخبين وغيرهم في لبنان لا يفهمون قانون هذه الانتخابات ولا آليات احتساب النتائج الشديدة التعقيد».

 هذا واقع، عندما يسأل طالبات وطلاّب سيتخرجون في الجامعة الوطنية المقفلة وأساتذتها يتظاهرون ساعات أمام المصارف يشحذون رواتبهم، يسألوننا عبر «الزوم»: أيحق لنا وفقاً لهذا القانون أن ننتخب مرشحاً من غير مذهبنا؟ ما معنى الصوت التفضيلي وأسبابه ونتائجه عند تفضيل مرشح على آخر؟ ما المقصود بالحواصل الانتخابية 1و2و3. كتب طالب لي: أيّ قانون انتخابي دوّار لا مثيل له في الدنيا يدور باللبنانيين تحقيقاً للنجاحات والأرباح المذهبية والحزبية لوائح معقّدة غريبة عجيبة صغيرة كبيرة تشي بالمسرى والنتائج.

 هل تنتهي الأسئلة المُشابهة التي تفرّغ معاني الانتخابات والأنظمة الديمقرطية والحرية والسيادة في دولة ترفض قانوناً يسمح للناخب المشاركة قبل عمر ال21 في القرن ال21؟

 الجواب بكلمات ثلاث:

1- الضياع المقصود بين حصول أو تأجيل أو نسف الانتخابات لأسباب وتحليلات وتوقعات قد تبشّر برعب الاغتيالات والحروب.

2- انشغلت الجمهورية الأولى بعدما سحبتها الأمم من قبورها ومتاريسها نحو الطائف ودستورها الجديد تتصدى للتغيير منذ الانتخابات البرلمانية في ال1992.

 نعم، بقيت أشهراً تعلّم الناس كيف يلعبون «اللوتو»، نعم اللوتو، اللعبة الفرنسية التي استوردتها من فرنسا لتُراكم الأحلام بربح الملايين، لكنها لم تشرح لهم كلمة واحدة تتعلّق بالانتخابات وقوانينها ومعانيها وروحها التي هجروها منذ ال1972. يلعب اللبنانيون بعد ثلاثين سنة عبر أجهزة الخلوي حالمين بالخارج، ويتفرّجون مرعوبين أبداً على المسارح والوجوه الانتخابية البرلمانية التي لا تشي بملامح التغيير.

3- السبب الثالث تعييني المُفاجئ في الهيئة العليا التي ستشرف على هذه الانتخابات النيابية في لبنان في منتصف شهر أيّار/مايو المقبل. صحيح أنّني أنتظر قسم اليمين أمام رئيس الجمهورية وحيداً، إذ سبقني أعضاء الهيئة قائلين «يقوم كلّ عضو بعمله في هيئة الإشراف على الانتخابات بكلّ أمانة وتجرّد وإخلاص ويحرص على التقيّد تقيّداً مطلقاً بالقوانين والأنظمة ولا سيّما تلك التي ترعى الانتخابات، تأميناً لحريتها ونزاهتها وشفافيتها»، وصحيح أيضاً أنّه يحظّر على عضو الهيئة المشرفة، وفقاً للنظام الخاص بها، القيام بأي عمل أو نشاط يتعارض مع مهام الهيئة وحيادها طوال فترة عملها، بل عليه الامتناع عن إلقاء أي محاضرة أو المشاركة في أي ندوة أو الإدلاء بأي تصريح يتعلق بالانتخابات وغيرها، لكنّ الأصح أيضاً وأيضاً أن فكرة الإشراف على الانتخابات فرنسية مستوردة وهي معممة في العديد من الدول الأوروبية، لكنها قد تبدو عصيّة في بلادٍ مستوردة أنظمتها وقوانينها ومواقفها، لكنها تتجمد وتُفرغ من مضامينها وفلسفاتها وكأنها نصوص منزلة مقفلة ومقدسة للتمتمة والصلاة يصعب التلاعب بنقاطها وفواصلها إن لم نقل بمقاطعها ومعانيها المحكومة بنجاحاتها وإخفاقاتها بالممارسة والتطبيق، فكيف لنا التوفيق إن جاءت في وطن بصيغٍ متبعثرة شديدة الحراك والنزاعات وعدم الاستقرار مثل لبنان يتقدم الخارج فيه على الداخل المبعثر؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"