د.مصطفى الفقي
أفرزت الأحداث الأخيرة في شرق أوروبا عدداً كبيراً من الحقائق والتغيرات، وطرحت عدداً آخر من الاستنتاجات التي تحتاج إلى دراسة متأنية وفهمٍ عميق، فكل الحروب التي جرت عبر التاريخ جرى اعتبارها حروباً موضعية، إذا كانت المواجهة بين الإنسان الأبيض ونظيره الأسود أو الأسمر أو الأصفر، أما إذا كانت أطراف الحرب منتمية إلى الجنس الأبيض في مجملها فيبدو أن الأمر يختلف، وتبدو قراءة الموقف ذات سياقٍ آخر تهتز له أركان الدنيا الأربعة، ويتقاذف زعماء العالم التصريحات النارية، وتنعقد الاجتماعات الملتهبة، ويبدو العالم كله وكأنه في عجلةٍ من أمره، ويدور الحديث حول نذر الحرب العالمية واحتمالات الصدام الكوني الشامل.
فالسيد الأبيض - حتى وهو لاجئ - يحمل على كتفيه أوسمة العبور ونياشين الاحترام، وذلك بالطبع على نحوٍ نسبي يختلف تماماً عما يجري للاجئين من فلسطين أو سوريا أو من الدول الصغيرة في أنحاء القارة الإفريقية، فضلاً بالطبع عن اللاجئين المسلمين من ميانمار أو الفلبين أو غيرها من أطراف العالم الفقير، بعيداً عن سيادة الرجل الأبيض وسطوته!.
ولقد لاحظنا التمييز الواضح بين اللاجئين من عالمنا الفقير واللاجئين من العالم الأول أو الثاني إذا جاز التعبير، تمييزاً لهم عن اللاجئين من دول العالم الثالث المقهورة على أرضها المنبوذة من غيرها، والتي يتم تجاهلها في كل الأزمات وكافة الصراعات، وكأن هناك دماءً بشرية أغلى من غيرها. وأتذكر ما كان يقوله لي أستاذي د.بطرس بطرس غالي عن العنصرية في الموت، مع ما كان يجري حينذاك من أحداث البوسنة والهرسك متزامناً مع ما كان يجري في راوندا وبورندي في القارة السوداء، في مفارقة مؤلمة توضح أن العنصرية قد زحفت على كل شيء في زماننا المحفوف بالمخاطر المملوء بالصراعات الحافل بخطاب الكراهية الذي تطل منه العنصرية بوجهها الكئيب حتى داخل الولايات المتحدة التي ترفع رايات الحرية، وتزعم الحديث عن المساوة المطلقة في كل حين، ولنا هنا بعض الملاحظات:
} أولاً: إن التمييز العرقي بسبب الجنس أو اللون، والتفرقة الثقافية بسبب العرق أو الدين لا يمكن أن ينهضا أبداً كسبب للتفرقة بين البشر، فكلنا جئنا من معدنٍ واحد وأعطيت محنة الحياة للجميع بشكلٍ متساوٍ في لحظة الميلاد، كما أن النهاية أيضاً يتساوى فيها الجميع في لحظة الرحيل، كذلك فإنه يجب عدم التفكير بشكلٍ عنصري أو طبقي، خصوصاً أن معدلات الذكاء متقاربة بين كل الأجناس والأعراق، ولا ميزة لقومٍ على غيرهم إلا بالتفكير السليم والرؤية الصحيحة والنظرة الموضوعية.
} ثانياً: إن التعايش المشترك هو أفضل صفات الإنسان المعاصر الذي يجب أن يتواءم مع كل المتغيرات والأحداث في عصر يبدو فيه كل شيء متغيراً، بدءاً بالمناخ مروراً بالسياسة وصولاً إلى الثقافة، فلم تعد الحواجز عالية ولا المسافات كبيرة بين عقلٍ وآخر، ولقد أثبتت التجارب أن مدة التعليم وفترة التدريب تؤدي إلى نفس النتائج إذا تساوت المؤشرات الأخرى، رغم الاختلافات العرقية أو الثقافية. فالإنسان هو الإنسان ابن بيئته ونتاج المناخ الفكري والثقافي الذي يتواجد فيه، لذلك فإن العنصرية البغيضة هي نوع من الممارسة القهرية التي نجح الرجل الأبيض في حيازتها للسيطرة على البشر في عهود العبودية القادمة من إفريقيا متجهة إلى العالم الجديد، تجسيداً لروح العنصرية والفكر المحدود والعقل المتجمد الذي لا أرى مبرراً لوجوده في هذا العصر.
} ثالثاً: إذا علمنا أن ثمانين في المئة من اللاجئين في العالم كانوا من المسلمين إلى عهدٍ قريب، وإذا أدركنا أننا نحن العرب قد دفعنا ضريبة غالية أمام عنصرية الغرب لعقودٍ طويلة، ثم دفعنا ذات الضريبة في مواجهة عنصرية الإرهاب المنبثق من أراضينا أحياناً أخرى، فسنعلم أننا نعدّ بحق دافعي ضرائب العنصرية الحمقاء عدة مرات، ولم يعد بمقدورنا أن نقبل بما كان يجري على أرضنا من سيطرة واجتياح وظلمٍ وافتراء، فقد حان الوقت لكي تستيقظ الشعوب وتقاوم العنصرية بكل ما أوتيت من قوة وما لديها من صلابة.
} رابعاً: لا يخفى على أحد أن القاعدة القانونية الدولية ناقصة؛ لأنها تفتقر إلى عنصر الجزاء الذي تعرفه كتب القانون بأنه (زاجر دنيوي منظم)، وإذ افتقد القانون الدولي قوته الإلزامية فإن الاستخفاف به والتندر عليه أصبح أمراً شائعاً، ولم تعد هناك قوة ملزمة تحمي قراراته أو تدافع عن مبادئه، فالشرعية الدولية يجري انتهاكها صباح مساء، كما أن الأمر يمتد الآن حتى بين أبناء الجلدة الواحدة إلى حربٍ دموية تنذر بأوخم العواقب وتعيد إلى الذاكرة مخاطر الحروب العالمية.
} خامساً: إننا نتطلع إلى المستقبل بنظرة تنبذ التشاؤم وتطل على التفاؤل بكل احتمالاته، إننا نؤمن أن حياتنا على هذا الكوكب يجب أن تتخلص أولاً بأول من سلبيات التحضر إذا جاز التعبير وخطايا العصر وأعباء التكنولوجيا وما حملته معها من آثارٍ سلبية، رغم أنها في المقابل جعلت الحياة أكثر يسراً وسهولة، وكأن لسان حالنا يقول.. إنها شر لابد منه!.