الولايات اللبنانية غير المتّحدة

00:24 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

انتظرنا ذكرى شهداء الصحافة في لبنان كما العادة في 7 مايو/ أيار الجاري، لكنها سقطت في دائرة النسيان. وكنّا انتظرنا اليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 الجاري لكنه وقع في البهتان، مع أنّ الجمعية العامة للأمم المتحدة أعلنته يوماً عالمياً منذ ديسمبر/ كانون الأول 1993 وبتوصية من المؤتمر العام للأونسكو. السبب أنّ الصحافة والإعلام في لبنان باتت سلطات كبرى في مهرجان لن يرقد أو ينام قبل وبعد إعلان نتائج انتخابات البرلمان.

 صحيح أنّ القانون الانتخابي يحترم ما يُعرف بالصمت الانتخابي على الأقلّ، لكنّنا شهدنا في هيئة مراقبة الانتخابات وشهدت معنا العيون والآذان المحلية والإقليمية والعالمية طوفاناً من الخروقات كي لا أقول الفلتان. صُمتُ عن الكلام لكنني لن أصوم عن الكتابة معلناً أنّ مسألة الرقابة على الانتخابات هي دمغة العدالة والحضارة في الديمقراطيات النظيفة.

 جاء القفز العالي فوق النصوص والقوانين والأعراف، يُفرز في المشهد اللبناني مرضين عضالين: جموح الأحزاب المتشظية طائفياً ومذهبياً إلى حدود الخوف من ناحية، وهذا «الفلتان» لدى معظم أهل الإعلام وكأنهم «سلطانات وسلاطين» الخروقات والتجاوزات الرسمية للسلطات التشريعية والإجرائية والقضائية مذ رسّخها مونتسكيو عبر فصل السلطات.

 كان من الاستحالة، بصراحة، رصد هذه الأمطار الإعلامية الموحلة الغزيرة التي قصفت بها وسائل الإعلام الجماهير والمرشحين بالتحقير والذم والكراهية وتبادل الاتهامات، ونتف الريش ونبش النواقص في الأخبار والتصريحات والبيانات والشعارات واليافطات بأحجامها وألوانها، والتحليلات والمقابلات والمناظرات والحوارات والتحقيقات والمؤتمرات إلى اللقاءات المتعلقة بالانتخابات بصورة مباشرة أو غير مباشرة . كان يجري بثها بحرية غير مسؤولة، ومن دون الإحاطة بها إن كانت مدفوعة بلا مقابل في البرامج العادية أو الاستثنائية المتنافسة بين المؤسسات الإعلامية حيث لا يمكن حصر الثروات وتعدادها وملاحقتها وضبطها.

 بصراحة: لم أتجنّ منذ 3 عقود عندما أسميت لبنان «ميديا ستيت».

 أكثر ما يؤذي لبنانيتك ووجدانك القومي وعروبتك عبر الأسواق الانتخابية المتنوعة ذاك الشحن المتواصل في الانتخابات البرلمانية، الذي تجاوز كل السقوف وبكلّ المعاني المعبّر وغير المعبّر عنها إلى المبالغات المتناقضة في توظيف العلاقات اللبنانية العربية بحماسة ومغالاة غير مألوفة حافلة بالنقد والتجريح والتطاول والاتهامات؛ إذ لم تعد تسمع صوتاً أو كلمة من نواب أو مرشحين للنيابة ممّن يتناولهم الإعلام ويشتمهم أو يسميهم حلفاء لهذا ولذاك تحت خانة «التكتيك» الانتخابي المُفرط التهذيب واللياقة.

 كان من المزعج جدّاً أن تصبح العروبة بصفاتها المُفرطة المتناقضة مثار عيبٍ وتفاخر في برامج من الارتجال المعادي، غافلين تاريخ لبنان المعقول والمقبول قولاً وفعلاً. تسمع مرشحاً تعثر وتلبك واحمرّ وكدّه العرق أمام سؤال حول علاقاته ببلد عربي فيروح يجتهد ويبرر ويدور إلى درجة التأتأة والضياع والخجل، وقد تسمع من مسؤولين في سدة السلطات الكبرى كلاماً دبلوماسياً جميلاً في العلاقات العربية اللبنانية بلا أيّ مضمون جديد سوى الكلام المتكرر الذي ملّته آذان اللبنانيين والعرب. أبسط ما يقال فيه أن العلاقات بين الأشقاء العرب تتجاوز المواعظ وهي ليست صالحة لكل زمان ومكان وإنسان وانتخابات. تلك نماذج من بضاعة وبرامج تأرجحت في الحملات الانتخابية بين قشور الديمقراطيات المستوردة المتعددة المصادر وثوراتها المتلونة المتعددة الأسماء، من دون أن نغفل الكلام السرّي الموثّق الوارد تحت عناوين «بالأمانات وبيناتنا أو في ما بيننا» بهدف ترسيخ العدائيات المتجذرة في النفوس وكأنّ أوراق التوت سقطت لتفضح تلك التناقضات المتجذرة.

 ندرت الخطب أو النصوص أو البرامج التي استلّت من قراءة التاريخ القريب أو البعيد لبناء ملامح جديدة لوطن يستغرق في هذه الحمى التي نسمّيها «الصورة» و«الفاتورة» في النصوص والأسئلة الممطوطة وتقطيع المسؤوليات بين موجات مرفوضة من الأجيال حافلة بالاستعدائية والاستجدائية والاستقوائية والكراهية والمتأرجحة بين شرق وغرب وعرب وعرب وحزب وآخر.

 بدت معظم الصحافة الانتخابية وظيفة موسمية وصنعة وحرفة قد يختلط فيها الكاتب والمراسل والمعلّق والمُخبر والمقدّم أو حتى الخبير والباحث بالأجير. تلك هي الصفة التي أدرجتها قوانين وزارة العمل اللبنانية بتسمية الصحفي أجيراً بدلاً من اعتباره رسولاً ومسؤولاً.

 هذا عيب قانوني موروث من مئات السنين حان استدراكه وتصويبه كي تتحوّل القراءة والكتابة في علاقات الإعلام مع الرأي العام ومع أهل السلطة أقلّ تعثّراً وتعقيداً وتبعثراً وتكسّباً في وطن مُتعب أدمن أبناؤه ظاهرة تقاذف المسؤوليات والمغالاة بتبخير الأشخاص وتقديس التواريخ الجامدة ناسين أنّ رغيف الخبز مفقود وصار نجمة الجياع في فضاء الولايات الإعلامية غير المتحدة في لبنان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"