أرض الأحلام.. أرض للخوف

00:27 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا شيء يظل على حاله، والعالم تتبدل أوضاعه من يوم لآخر، إنها سنة الحياة وإلا ما اختفت إمبراطوريات من بينها تلك التي لم تكن الشمس تغرب عن أراضيها؛ لذا لا غرابة في أن تتحول الدولة التي كانت أمس، أرضاً لأحلام سكان الكوكب إلى أرض للخوف، بعد أن أصبح الإنسان لا يأمن فيها على حياته ولا حياة أولاده، كيف يأمن والبعض يرسل أبناءه للمدرسة، ولا يعودون إليه في نهاية اليوم سوى جثث قتلتها أيادٍ منفلتة وشاذة منحها الدستور والقانون حق شراء السلاح وحمله من عمر ثمانية عشرة، دون ضوابط ولا مراجعة لملفاتهم السلوكية. 
هي الولايات المتحدة التي أجمع البشر عليها أرضاً للأحلام والفرص، تتحول بمباركة من ساستها وفي إطار من الدستور والقانون إلى أرض الخوف، الخوف ممن يقتل دون أن يفرّق، بصرف النظر عن الفوارق العرقية والاجتماعية، بما في ذلك تلاميذ المدارس الذين يذهبون لتحصيل العلم ليجدوا الإرهاب الفكري والانفلات الأخلاقي والارتياب النفسي يقتحم عليهم الفصول ليحصد أرواحهم. 
أمريكا الدولة الأغنى والأقوى في العالم، الحاكمة والمتحكّمة في الكوكب وشؤون ملياراته الثمانية، والتي تروج لنفسها على أنها قلعة الديمقراطية، وحامية لحقوق الإنسان، وأرض الأمان، تعجز عن حماية حقوق تلامذتها في الحياة، بعد أن تحوّلت إلى غابة من السلاح المنفلت، وأصبح عدد قطع السلاح في أيادي الناس يفوق عدد السكان، حيث تباع رسمياً في 65 ألف محل منتشر في كل أمريكا. 
حادث مدرسة تكساس راح ضحيته 19 تلميذاً ذهبوا لتحصيل العلم فحصدهم الموت على يد شاذٍ قتل معهم مدرّستيْن وأصاب الآخرين برعب قد تنجم عنه جرائم أخرى وعقد نفسية، وهذه الجريمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فقد سبقتها جرائم قتل في مدارس وملاهٍ وجامعات وأسواق ومهرجانات حصدت 1.4 مليون قتيل خلال خمسين عاماً الماضية، بواقع 77 قتيلاً يومياً، بحسب مركز «إيفري تاون ريسيرش»، وتعيد إلى الأذهان صورة جريمة مماثلة حدثت قبل سنوات عندما قتل مَوتور، 20 طفلاً، و6 مدرّسين في مدرسة ابتدائية بمدينة نيوتاون في ولاية كونيتيكت، وهاج وماج بعض الإعلام ضد الحق الدستوري الذي يكفل لكل من يتجاوز الثامنة عشرة حق شراء وحمل السلاح، ولكن رابطة السلاح الوطنية الأمريكية كانت لهم بالمرصاد، وهي المسنودة بما يضمن بقاء هذا العبث من المشرعين والساسة الذين يتلقون الدعم من مافيا مصنعي وتجار السلاح، وقبل أن تجف دماء تلاميذ تكساس أعلن الرئيس السابق ترامب، رفضه لدعوات تقييد اقتناء السلاح، مؤكداً ضرورة السماح للأمريكيين بحمله للدفاع عن أنفسهم ضد «الشر». 
أي شر يقصده بعد الشر الذي يحصد أرواح التلاميذ داخل فصولهم التعليمية؟ وأي شر هذا الذي تعجز عن التصدي له الأجهزة الأمنية الأمريكية؟ وأي شر هذا الذي يهدد أمن الناس في الدولة الأقوى وبلا سبب حقيقي ولا حالة حرب؟ أليس في هذه الكلمات انتقاص من قدر أمريكا وتشويه لمكانتها أمام من تتغوّل عليهم وتحاصرهم باسم حقوق الإنسان؟ 
أم إن هذه الدولة التي ردمت العالم سلاحاً، وأرهقته حروباً وقتلاً، تريد أن تستمر مسرحية الوهم التي فبركت فيها عدواً من سراب، وأقنعت الناس بأنه موجود ويتربص بهم طوال الوقت، وتريد أن تؤكد لأجيالها القادمة أن العالم غابة، وحمل السلاح هو الضمان للبقاء فيه. 
في عام 1776 استقلت المستعمرات الأمريكية عن بريطانيا وفكّر المؤسسون في تشريع حمل السلاح لمواجهة الطامعين؛ لذا كان تضمين الدستور هذا الحق لظروف المرحلة حينئذ، واليوم بعد 246 عاماً، ما زال بعض الساسة الأمريكيين يرفضون الاقتراب من هذه المادة، وكأن الوضع لم يتغير، وهي الدولة التي تمتلك أجهزة أمنية تلاحق الناس في أبعد بقعة في العالم، وتمتلك أقوى جيش لترهيب الخارجين عن إرادتها في كل مكان، ومع ذلك تعجز عن حماية مواطنيها. 
نعلم أن الدولة الأمريكية هي دولة التناقضات، تشرّع حمل السلاح لأهداف سياسية، وتغزو الدول لأسباب غير منطقية، وتدافع عن حقوق الإنسان وحقوق أطفالها منتهكة، وتناهض العنصرية وهي الغارقة فيها.. أما آن لهذا المجتمع أن يواجه إداراته وساسته ويفضح تناقضاتهم التي لا تجلب سوى الموت داخلياً وخارجياً؟.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"