صناعة القلق

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

منذ سقوط البرجين في الولايات المتحدة، سقطت البشرية مذهولة بفكرة النهايات المرسومة ولو سلفاً على الورق وفي الأذهان الخفية الساحرة. ومعها سقطت أوراق التين عن الحرية والأمن والاستقرار والديمقراطية وأقنعتها المتنوعة في العالم، وسقطت معها وخلفها أيضاً الثوابت والقيم والأفكار القديمة وخصوصاً الطمأنينة لدى دول العالم التي استيقظت فوجدت شعوبها في قبضة العين العالمية. تضبطك تلك العين كائناً من كنت بملايين الصور والأصوات كيفما وأنّى اتجهت عبر قارات العالم أمامك وكأنها مساحات أمام بيتك وسريرك. تتعرى سعيداً في أروقة المطارات حتى من تلبيسة أسنانك وأنفاسك؟ نعم المهم التقاط أفكارك وأحلامك ولو فاضت العنصريات بمضامينها البشعة الموروثة.
 للدنيا عيون عالمية، إذاً، وفيها تُقيم البشرية جمعاء تحضنها الكاميرات المزروعة في الفضاء وشوارع المدن والأسواق والمجمّعات التجارية، وفي دور العبادة والسينما والاجتماعات كما في منزلك ومكتبك ومدرستك وجامعتك بناء لرغباتك وفي زواياك الحميمة. تنقلك كاملاً في أزمنة الحرية في المحمول بين يديك، ما أن تفتح نافذة أو نوافذ لبريدك «الإلكتروني» أو «الفيسبوك» أو ال«تويتر» أو «السكايب» أو «الواتس- آب».
 الإنسان الرقمي فراشة سقطت في قناديل ال3G ثم ال4G وال5G والصناعات الذكية التي تهندس الدنيا تحت لسانك وبين أصابعك وتموّجات عقلك وفكرك وخيالك الصامت اللذيذ والفخور بتملكه للفضاء أمام أجهزة فائقة القدرات تحسب حتى نبضات القلب. كل ذلك بموجب برامج وآليات دولية مرسومة، لا لتسجيل كل ما ينبس به حبرك ولسانك وتحليله؛ بل لحفظه نقطة من الضوء في عالم متقن يسهل تخزينه وتوضيبه وضبطه للمحاسبة عند الضرورة بكبسة مفتاح.
 من بقايا «الداعشية» المتجددة إلى كورونا المتحوّلة، لهاث وراء الأخبار والمشاهد والنوايا والاستراتيجيات العالمية في صناعة القلق البشري المقيم؛ حيث لا يمكن التنبؤ بزمانه ولا بمكانه ولا الإحاطة بطرائقه ونتائجه. لمواجهة هذا العجز غير المُعلن ليس سوى تبني المبدأ الوقائي والقلق الدائم، وقبول الخيارات المفتوحة المستوردة للمحافظة على المستقبل بغموضه والتكيّف معه لطالما صارت الدنيا مسرحاً مكشوفاً تلعب فيه الحياة مع الموت أبداً طفلتين في بقاع القارات الخمس ودولها وأنظمتها المسكونة بمستقبلها عبر الصراع في أوكرانيا وروسيا.
 لماذا هذا كلّه؟ لأن العين العربية لم تغمض بعد، بعدما أنهكتها، مشاهد الدم والعنف المفاجئة التي كست العقد المتجرجر بصور القتلى والمشوّهين والمشردين الجائعين في البسيطة ثماراً ل«ربيع العرب» الذي ما انقشعت مشاهده وآثاره الباقية وكأنها لم تكتب أصلاً ولا مقدمات لها ولا نهايات.
 ولأنه، خلافاً لكل هذا الطنين في هذه الكرة المشحونة بالخوف والقلق المتنوع، تترهل الحرية والحق والحقيقة والديمقراطية والعدالة والمساواة وغيرها من الأفكار الزاهية مرذولة في انتباهات الأجيال والشعوب، ويظهر الواقع العالمي، كما يبدو لي، أسير أمراض السلطات المتناسلة الخطورة عبر المصطلحات الزاهية، لكنها الأفخاخ الدولية العظيمة بالأسماء، لكنها المتهادية على قوائم من صلصال وتخفي حروباً نووية تُرعب العالم ولو مرتجلة أو تحت الألسنة. من يحدّق ملياً حوله يدرك العبوديات القاتلة الباقية والضغوط الهائلة وضحالة المساواة الصارخة. وما المشاهد التي تأسرنا عبر الشاشات الحرة سوى تحريف الوقائع والقوانين والشروط التي تحقق وجودنا كبشر أسقطتنا أمهاتنا أحراراً. ها الأرض صارت تشبهنا... وكأنها كرة تتدحرج.
‏ بدأت مرحلة فكرية سرية ملتبسة في تاريخ الفكر الثوري العالمي بنيت على الفوضى والموت ومعها تراجع العقل وتقدمت الغرائز الملفوفة بأوهام الحرية. نحن لا نلتقط سوى نتف من المشاهد، أي لحظات حامية، قوية لا تمنحنا المشهد كاملاً إلا إذا تيسّر لنا رؤيتها بطريقة «بانورامية» عبر الأفلام البعيدة. ومن دون أن ننسى بأن الصور لا تفصح الحقائق كلها، لكن وراء كل منها مآسٍ تدمغ البشر بالأحزان الكثيرة والخواطر المكسورة التي لا تبرأ.
 صحيح أن العين هي الحاسة الأخيرة التي تستيقظ لدى المولود، وهي تحتوي على 135 مليون خلية مسؤولة عن التقاط الصور وتمييز الألوان وهي حاسة ينقاد خلفها الذكور فتحكم سلوكهم غالباً، وصحيح أن الأذن هي الحاسة الأولى التي تبدأ عملها قبل الولادة في الأرحام ولها حظوة الإناث، وصحيح أيضاً أن العين والأذن قامت عليهما مخابرات الدول عبر التاريخ، لكن الملاحظ مع زواج الحاستين بالمعنى التقني الاتصالي والنزاعات الدولية اللامنتهية، تم تشريع العالم على سلطات الشاشات والدول الزجاجية، التي لم ولن تنتهي بأشكالها وأنواعها ومخاطرها وحروبها صناعات القلق التي قد تقودنا جميعاً إلى مشاهد العدمية الكاملة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"