غيوم فوق قرطاج

00:10 صباحا
قراءة 4 دقائق

تتفاقم الأزمة التونسية إلى حدود منذرة بتغييرات دراماتيكية في المشهد السياسي.
لا الأوضاع الحالية قابلة للاستمرار ولا الأوضاع السابقة مرشحة للعودة. الأزمة بمشاهدها وتداعياتها قد تأخذ البلد إلى المجهول.
 الدستور الذي أقر بقوة الثورة تعطلت شرعيته بالإلغاء، والدستور المقترح مطعون عليه قبل الذهاب إلى الاستفتاء في 25 يوليو(تموز) المقبل.
 في الأوضاع القلقة الحالية تتكثف الغيوم فوق قصر قرطاج، حيث مقر الحكم ويصعب التكهن بما قد يحدث غداً. السيناريوهات كلها مفتوحة على المجهول وكمائن الخطر ماثلة في المكان.
 لم يكن الرئيس قيس سعيّد وجهاً سياسياً معروفاً قبل انتخابه، كان صعوده لموقعه تعبيراً عن الضجر العام من النخبة السياسية الحاكمة وشبهات الفساد التي تلاحقها.
 بدت سمعته ك«رجل نظيف» تلتف حوله مجموعات شابة تنتمي إلى الثورة التونسية كافية لقطاعات واسعة من الرأي العام للرهان عليه دون نظر في أفكاره وتصوراته لطبيعة نظام الحكم، وقد كانت أقرب إلى «النظام الجماهيري»، الذي أسسه العقيد معمر القذافي في ليبيا!
 حاولت حركة «النهضة» دون جدوى احتواء الرئيس الجديد، قبل أن تعمل على تهميشه في صناعة القرار الداخلي وتجاوز صلاحياته الدستورية في الإشراف على السياسة الخارجية والعلاقات الإقليمية.
 جرت صدامات سياسية متكررة بين الرئيس المنتخب بالاقتراع المباشر ورئيس الوزراء هشام المشيشي المعين من المجلس النيابي، الذي يترأسه ويهيمن عليه راشد الغنوشي زعيم حركة «النهضة»!
 كان الصدام محتماً. اكتسبت إجراءات 25 يوليو2021 الاستثنائية قبولاً شعبياً واسعاً أضفى عليها مشروعيتها أكثر من نسبتها إلى المادة (80) من الدستور التونسي، التي تخوّل الرئيس في الظروف الاضطرارية إقالة الحكومة وتجميد البرلمان بما لا يزيد على عام دون أن يكون من حقه حل السلطة التشريعية والهيمنة على السلطة القضائية.
 جرى تأويل المادة الدستورية لمقتضى الصراع على السلطة ولمن تكون الغلبة في صناعة القرار. كان لافتاً الدعم الكامل، الذي حازه سعيّد من المؤسسة العسكرية والأمنية على خلفية كراهيتها التاريخية لحركة «النهضة» ذات التوجه القريب من جماعة «الإخوان المسلمين».
 السؤال الآن: كيف تتصرف تلك المؤسسة إذا دخلت البلاد في اضطرابات لا يمكن السيطرة عليها؟ أرجو أن نلتفت للدور الذي لعبته التظاهرات الغاضبة على الأوضاع الاجتماعية المتردية وما تبدّى من قصور حكومي فادح في مواجهة جائحة «كورونا» في توفير حاضنة شعبية لإطاحة حركة «النهضة».
 قبل عام تبدّت فرصة مستجدة لتأسيس توافق وطني جديد مع القوى الحية، التي لم تنخرط مع «النهضة» فيما هو منسوب إليها من خطايا فادحة في ممارسة السلطة.
لم يحدث شيء من ذلك وأخذت الأخطاء تتراكم حتى استهلك النظام جانباً كبيراً من مشروعيته الشعبية.
 أسوأ ما جرى بعد (25) يوليو أن ما هو استثنائي أصبح اعتيادياً، مددت الفترة الاستثنائية من شهر حسب النص الدستوري إلى شهرين إلى سنة كاملة دون إجراء أي حوار وطني واسع وجدي ودون أية خريطة طريق تصنع توافقاً حقيقياً حول الخطوات التي يتوجب اتباعها، كما وعد «سعيد» بنفسه.
 لا يماري أحد تقريباً أن فساداً نال من الهيئة القضائية، صدقيتها وعدالتها، حال دون المضي قدماً في البت بقضايا اغتيالات تتهم «النهضة» بالتورط فيها وقضايا أخرى تنطوي على شبهات فساد.
 التطهير ضروري، هذا مما لا شك فيه، الاعتراض الأساسي أن يجري ذلك بمرسوم من رأس السلطة التنفيذية، دون ملف تأديبي أو جزائي، أو أن يكون إعفاء عشرات القضاة عشوائياً بلا قواعد وأصول متبعة.
دخل أكثر من (90%) من قضاة تونس في إضراب عام تمدد حتى الآن لأسبوع ثالث، وهو وضع لا يحتمله بلد منهك اجتماعياً ومأزوم سياسياً.
 لم تكن تونس في حاجة إلى توتير إضافي للاحتجاجات السياسية التي تنمو بالتدريج على خلفية الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء على دستور جديد اقترحته «الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل الجمهورية الجديدة»!
 الأخطر من ذلك كله أن شبح الانفجار الاجتماعي غير مستبعد على خلفية تردي الأوضاع الاجتماعية واتساع دائرة الفقر ومخاوف الاستجابة للإصلاحات القاسية التي يطالب بها صندوق النقد الدولي.
 كان لافتاً أن الإضراب العام، الذي دعا إليه الاتحاد العام للشغل، نجح بصورة لا يمكن إنكارها، أو تجاهل رسائلها. تقليدياً يعتبر اتحاد الشغل رمانة الميزان في حسم صراعات السلطة.
هذا إنذار لا يمكن تجاهل رسائله إلى المستقبل المنظور. في كل تلك التفاعلات الصاخبة مالت «النهضة» إلى شيء من الانزواء، باستثناء مداخلات مصورة ل«الغنوشي» وبيانات متباعدة باسمها.
 هناك مخاوف حقيقية من أي انقضاض محتمل على الحريات العامة، الإنجاز الرئيسي شبه الوحيد للثورة التونسية، والعودة بصورة أو أخرى إلى ما قبلها.
حسب تصريح رئيس الهيئة المكلفة بوضع الدستور فإن نظام الحكم لن يكون رئاسياً ولا برلمانياً، وأنه سوف يكون تونسياً محضاً.
 هذا الكلام لا يؤسس لأوضاع مستقرة ولا لنظام حكم يطلب الثقة العامة.
الدستور موضوع توافق واسع، وهو ما يغيب بفداحة في الحالة التونسية المستجدة.
من هنا إلى (25) يوليو سوف تشهد تونس فوراناً سياسياً واجتماعياً دون أن يكون أحد مطمئناً على مستقبلها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"