الكومنولث بين التمدد والتقلص

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق

تراهن المملكة المتحدة منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي على استعادة دورها القيادي في العالم، بعد أن تحرّرت دبلوماسيتها من قيود بروكسل، وتسعى إلى لعب دور جيوسياسي محوري في الملفات الدولية سواء في شرق أوروبا في مواجهة روسيا أو في المحيط الهادي من أجل احتواء الصين. وتمثل مجموعة الكومنولث أحد الأعمدة الأساسية التي تحاول لندن الاعتماد عليها من أجل ترسيخ هيمنة المنظومة الأنجلوساكسونية والغربية على العالم، وتعمل بريطانيا في سياق متصل على توسيع نفوذها في القارة الإفريقية ليس فقط من أجل مواجهة النفوذ الروسي والصيني المتعاظم في القارة، ولكن أيضاً من أجل تعويض تراجع النفوذ الفرنسي في مستعمراتها الإفريقية.
 ويشير المتابعون للشؤون الإفريقية إلى أن بريطانيا نجحت إلى حد بعيد في بسط نفوذها في إفريقيا، وأبانت عن قدرتها على استقطاب أعضاء جدد، للالتحاق بمجموعة الكومنولث من خارج دائرة البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية؛ حيث انضمت مؤخراً دولتان فرانكفونيتان من إفريقيا إلى مجموعة الكومنولث التي تعد أهم ميراث للتاج البريطاني منذ فترة هيمنة الإمبراطورية البريطانية على مناطق شاسعة من أقصى شرق الكرة الأرضية إلى أقاصي غربها. ويشكل انتقال الغابون والتوغو من دائرة النفوذ الفرنسي إلى دائرة النفوذ البريطاني فصلاً جديداً من فصول تلاشي النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، وبخاصة بعد إقدام الحكومة العسكرية في مالي على طرد السفير الفرنسي من باماكو.
 وتجدر الإشارة إلى أن الغابون ظلت لعقود من الزمن، شأنها في ذلك شأن ساحل العاج، من أكثر الدول الإفريقية ولاء لباريس، ويطرح انضمامها إلى الكومنولث أسئلة بالغة الأهمية بشأن مستقبل علاقات فرنسا مع مستعمراتها الإفريقية السابقة، وتحديداً منذ قيام رواندا في 2009 بالتخلي عن الفرانكفونية، والانضمام إلى المجموعة البريطانية بعد اتهامها لباريس بالتورط في جرائم الإبادة الجماعية التي شهدها هذا البلد في التسعينات من القرن الماضي.
 وعليه فإنه وبعد قرار الانضمام للكومنولث الذي أقدمت عليها الغابون والتوغو، فإن إفريقيا باتت تشكل أكبر قارة في مجموعة دول الكومنولث بعد ارتفاع عدد الدول الإفريقية المنتمية إلى هذه المجموعة إلى 19 دولة، متجاوزة بذلك عدد الدول الآسيوية التي كانت تمثل مركز الثقل بالنسبة للتاج البريطاني في عز قوته في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ واستطاعت بريطانيا أن توسِّع بذلك من دائرة نفوذها خارج مستعمراتها السابقة، لتضم دولاً كانت جزءاً من دائرة نفوذ قوى استعمارية سابقة في إفريقيا مثل فرنسا والبرتغال.
 وتحاول فرنسا في مقابل ذلك مضاعفة جهودها من أجل الدفاع عن الفرنكوفونية في إفريقيا، مستغلة إخفاق دول مثل الغابون في دفع مواطنيها إلى التخلص من هيمنة الفرنسية، والتحوّل إلى اللغة الإنجليزية، بسبب صعوبات تتعلق بشح الإمكانات التي تسمح لها بالتحول إلى بلد مزدوج اللغة في وقت قصير، وتحرص باريس أيضاً على استعادة مكانتها الثقافية والاقتصادية في العديد من الدول الإفريقية، لاسيما في رواندا من أجل منعها من أن تصبح نموذجاً ناجحاً للتحول نحو الإنجليزية في القارة السمراء، وبخاصة وأنها تعلم أن الجاذبية التي بات يملكها الكومنولث البريطاني الآن تعود إلى كونه يقدِّم إلى أعضائه فضاء اقتصادياً كبيراً يضم 2.4 مليار مستهلك.
 بيد أنه وعلى الرغم من هذا النجاح النسبي للكومنولث، فإن متاعبه لا تتعلق فقط بمواجهته للمنافسة الفرنسية؛ بل ترتبط بمحاولته التصدي لتحديات كبيرة وغير مسبوقة في سياق مواجهته لروسيا وللصين في إفريقيا وآسيا من جهة، ومعايشته لمرحلة تاريخية يعرف فيها نفوذه تراجعاً ملحوظاً، ويواجه فيها هذا التكتل تهديداً وجودياً لكيانه بسبب منافسة مجموعة «البريكس» التي تضم دولاً محسوبة على دائرة النفوذ البريطاني من جهة أخرى، الأمر الذي يجعل الكومنولث البريطاني يتحوّل تدريجياً إلى كيان سياسي رمزي بقدرات اقتصادية يتواصل تقلصها وتراجعها بشكل مستمر، بسبب رفض الهند وجنوب إفريقيا ومعهما البرازيل، لخطط الغرب، الهادفة إلى المحافظة على سيطرته الأحادية على العالم، في الوقت الذي تسعى فيه هذه القوى الصاعدة إلى بناء عالم متعدّد الأقطاب، يحافظ على مصالحها، ويتيح لها هامشاً واسعاً من الحرية في اتخاذ قراراتها السيادية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"