مصلحتنا في النأي بالذات

00:08 صباحا
قراءة 4 دقائق

جميل مطر

أدرت سهرة نقاش حول حال العلاقات بين الدول العظمى. جرى النقاش هادئاً في غالب السهرة حتى جاءنا خبر إعلان نانسي بيلوسي الرئيس الحالي لمجلس النواب الأمريكي نيتها القيام بزيارة رسمية إلى تايبيه عاصمة تايوان. فجأة سيطر على السهرة مزاج مختلف عن المزاج الذي استُهل به النقاش. المؤكد أن هذا الخبر، صح وقته أو لم يصح، لم يكن ليثير كل هذا التوتر في أجواء سهرة ضمت أصدقاء يجتمعون عادة لمناقشة قضايا دولية تهم المصلحة الوطنية، لو لم يكن النقاش قد مسّ بالفعل منذ بدأت السهرة تطورات وقضايا مهدت مزاج الحاضرين لأمر جلل إن لم يقع الليلة فواقعٌ عما قريب.

 توافق المشاركون منذ بداية السهرة على أهمية موقع العقدين الأخيرين في التاريخ الأحدث لعلاقات القمة الدولية، إن صحت هذه التسمية وانطبقت فعلاً على حال هذه العلاقات في ذلك الحين. توافقوا مثلاً على أن أحوال القوى الثلاث، أمريكا والاتحاد الروسي والصين، تتغير في اتجاه مختلف جذرياً عن الاتجاه الذي رسمته عند مطلع القرن واستقرت عليه المدارس الكبرى للعلاقات الدولية في العالم الغربي وبخاصة في الولايات المتحدة. انتهى القرن، أو كاد ينتهي، وروسيا ما بعد المرحلة السوفييتية في حال فوضى وتسيب وأكثر خططها مدروس في الغرب لتصفية الاقتصاد الروسي لصالح أفراد منتفعين استطاعوا بعون أمريكي وبريطاني إخراج حصيلة بيع أصول الدولة ومشاريعها الخدمية والإنتاجية للخارج. وقتذاك أشارت كل التقارير المعتبرة إلى أن الانهيار الروسي مستمر والأمل في عودة روسيا لتلعب دوراً مهماً على القمة الدولية خائب.. خائب.

 على الناحية الأخرى كانت الصين تنهض اقتصادياً. أعمت المصالح المشتركة والفوائد الجمة التي حققها الاقتصاد الأمريكي من وراء نهضة الصين عيون علماء السياسة ودعاة الفكر وواضعي الاستراتيجيات الإمبراطورية في الولايات المتحدة عن مراقبة الآثار المحتملة لهذه النهضة على مصالح أمريكا.

 في الوقت نفسه، كانت الولايات المتحدة وهي القوة الأعظم منفردة عند القمة الدولية، تنحسر أمام أعين شعوب العالم الغربي والعالم النامي. انحدرت كفاءة وأداء البنية التحتية من طرق وجسور ووسائل نقل ومواصلات، وانحدرت كفاءة وأداء قطاعات الخدمة الصحية والتعليمية، وعادت تتدهور العلاقات العرقية بين فئات الأمة الأمريكية ومعها تدهورت بالفعل القوى الأمنية وزادت الفوارق الاجتماعية، وعاد الفرد العادي يتحسس سلاحه الناري ليدافع به عن نفسه وممتلكاته وعائلته، ومع هذه العودة للفوارق ازداد إحساس مؤسسات عتيقة وحديثة في الدولة بفداحة الانحدار. لم يغب عن البال في أمريكا وخارجها أن الحديث المعتدل عن مستويات الانحدار في بعض الإمكانات الأمريكية يخفي واقعاً أشد خطورة ناتجاً عن المقارنة بين المستويات المطلقة والمستويات النسبية، أي بالمقارنة من ناحية بمستويات الصعود والقفزات الصينية ومن ناحية أخرى بمستويات العودة الروسية، وإن بدت في بداياتها متواضعة ومتدرجة، ومن ناحية ثالثة بالمستويات الكلية وأقصد بما تحقق فعلاً في الدول الثلاث خلال آخر عقدين.

    كل ذلك دفع الحاضرين إلى توخي الحذر الخشية من الوقوع في منزلقات كتلك التي أودت في السابق بالبشرية إلى أتون الحرب العالمية وحروب الإبادة ومشاعر الكره الديني والعنصري. بدأت الأسئلة المتفجرة بطرح استفساري عن اختيار إدارة الرئيس ترامب للصين هدفاً لحرب استفزاز لها تاريخ رهيب في نفوس قادة الصين وشعبها. 

  لماذا اختار ترامب الصين ولم يختر روسيا بينما الكراهية لروسيا ولكل ما يمثله الكرملين لم تزل حية وفاعلة ولها أنصار بالألوف في قاعات الدرس والبحث العلمي في مختلف جامعات أمريكا ومراكز العصف الفكري؟. 

 شن ترامب على الصين حرباً إعلامية وأيديولوجية وتجارية وجمركية وتكنولوجية لا هوادة فيها، مهد العالم بأسره لعدوان على الصين بعد إدانتها بدون تحقيق شامل أو محايد بالمسؤولية عن انتشار فيروس كورونا، بينما عادت حرب أوكرانيا لتثير أسئلة عن دور أمريكا في نشر هذه الفيروسات وغيرها متسربة من معاملها المنتشرة في دول عديدة بذريعة خدمتها لأغراض حلف الناتو.

 يذهب الظن في الغالب إلى أن حملة ترامب ضد الصين كانت ستستمر خلال الفترة الرئاسية الثانية، ولكن ترامب لم يفلح في انتخابات التجديد بينما أفلح جو بايدن الذي لم يتخلف بدوره عن إثارة استفسار ثان. بأي عقل سياسي تقرر دولة عظمي التحول من حربها التي شنتها على الصين إلى حرب أشد فتكاً وتنوعاً تشنها على روسيا. قيل في التفسير إن ترامب كان «يحب» بوتين بينما بايدن يكرهه ويكره أيضاً بحكم أيديولوجيته الليبرالية الرئيس الصيني بل الصين بكل ما تمثله كدولة آسيوية نامية وصفراء. يكرههما معاً لأنهما يسعيان إلى حرمان أمريكا من مكانتها كقطب منفرد في نظام أحادي القطبية. 

 كاد الغرب يتصور في مرحلة من مراحل حرب الاستفزاز ضد روسيا والصين، أنه لو انتهج الاعتدال في حربيه ضد روسيا والصين فسوف يتوحد القطبان الروسي والصيني في جبهة واحدة ضد القطب الأمريكي. 

 لاحظنا مثلاً أن روسيا وأمريكا، ولم تتوقف الحرب الناشبة بينهما، ينشطان دبلوماسياً وبإقامة أحلاف تماماً كما كانا يفعلان في زمن القطبية الثنائية، بينما الصين نراها عازفة عن دعوات التحالف العسكري أو الأيديولوجي. 

 انتهت سهرة النقاش إلى توصية تمنينا أن تصل إلى شعوب وحكومات العالم النامي وإفريقيا وأمريكا الجنوبية. أوصينا بأن ننأى بأنفسنا عن التحالفات والائتلافات التي تسعى كل من روسيا وأمريكا لتشكيلها خلال الفترة القادمة، وأن نحاول أن نصل، من دون الصين، إلى رؤية تأخذ في اعتبارها أن النظام الدولي الجديد يولد مشحوناً بطاقة عنف هائلة ومزوداً بأساليب وأدوات هيمنة مدمرة. خير لنا أن نكون بعيدين عنها ومحصنين ضدها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"