بين الزراعة العضوية والتقليدية.. أزمةٌ مستمرة

22:22 مساء
قراءة 4 دقائق

بيورن لومبو*

تلوح في الأفق أزمة غذاء عالمية، لذلك يحتاج صانعو السياسات في كل مكان إلى التفكير ملياً في كيفية جعل الغذاء أرخص وأكثر وفرة. وهذا يتطلب الالتزام بإنتاج المزيد من الأسمدة والبذور الأفضل، وتعظيم الإمكانات التي يوفرها التعديل الوراثي والتخلي عن هوس العالم الثري بالمواد العضوية.

أثّر الصراع بين روسيا وأوكرانيا على إنتاج وإمداد وتوافر الغذاء؛ لأن هذين البلدين يمثلان ببساطة أكثر من ربع صادرات القمح العالمية، وكميات ضخمة من الشعير والذرة والزيوت النباتية. ناهيك على السياسات المناخية القاسية والتأثيرات المستمرة لوباء «كورونا»، وارتفاع أسعار الأسمدة والنفط والغاز، ومعها أسعار المواد الغذائية التي نمت بنسبة 61% خلال العامين الماضيين.

وقد كشف الصراع عن بعض الحقائق القاسية. لعل أهمها أن أوروبا، التي تُفاخر بكونها رائدة في مجال الطاقة الخضراء، تعتمد بشكل كبير على الغاز والطاقة الروسية. وأعادت الظروف الراهنة التأكيد على الحقيقة الأساسية المتمثلة في أن الوقود الأحفوري لا يزال قضية حاسمة للأغلبية العظمى من الاحتياجات العالمية. كما كشفت أزمة الغذاء الناشئة عن حقيقة قاسية أخرى، وهي أن الزراعة العضوية لا يمكنها إطعام العالم بأسره. بل على العكس، يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الأزمات المستقبلية.

يُروّج نشطاء البيئة للفكرة الخادعة القائلة بأن الزراعة العضوية يمكنها أن تحل أزمة الجوع. ويدفع الاتحاد الأوروبي لزيادة الزراعة العضوية ثلاثة أضعاف بحلول عام 2030، في الوقت الذي يعتقد فيه أغلبية الألمان أن الزراعة العضوية يمكن أن تساعد في إطعام العالم. لكن الواقع مختلف؛ إذ تُظهر الأبحاث أن الزراعة العضوية تنتج غذاء أقل بكثير من الزراعة التقليدية لكل هكتار، وتتطلب من المزارعين تقليب التربة خارج مواسم الإنتاج مما يقلل من فاعليتها. وفي الحقيقة، تنتج الزراعة العضوية ما بين ربع إلى نصف الكمية من الغذاء أقل مقارنة بالزراعة التقليدية.

وهذا لا يجعل الغذاء العضوي أكثر تكلفة فحسب، بل يعني أن المزارعين العضويين سيحتاجون إلى المزيد من الأراضي لإطعام نفس العدد من الناس كما هو الحال اليوم، وربما ضعف المساحة تقريباً. وبالنظر إلى أن الزراعة التقليدية تستخدم حالياً 40% من الأراضي الخالية من الجليد على الأرض، فإن التحول إلى المواد العضوية يعني تدمير مساحات كبيرة من الطبيعة من أجل إنتاج أقل فاعلية.

والكارثة التي تتكشف في سريلانكا تقدم درساً عملياً. فقد فرضت الحكومة العام الماضي انتقالاً كاملاً إلى الزراعة العضوية، وعيّنت متخصصين في الزراعة العضوية، بمن فيهم بعض الذين زعموا وجود روابط مشبوهة بين المواد الكيميائية الزراعية والمشكلات الصحية، مستشارين زراعيين. وعلى الرغم من الادعاءات المبالغ بها بأن الأساليب العضوية يمكن أن تنتج غلات مماثلة للزراعة التقليدية، لم تنتج هذه السياسة المتبعة سوى البؤس، حيث تضاعفت أسعار بعض المواد الغذائية خمس مرات.

وبعد أن كانت مكتفية ذاتياً في إنتاج الأرز لعقود، اضطرت سريلانكا بشكل مأساوي الآن إلى استيراد ما قيمته 450 مليون دولار من المادة الأساسية. أما الشاي، محصول التصدير الرئيسي الآخر للبلاد ومصدر النقد الأجنبي، فقد تعرض للدمار، مع خسائر اقتصادية تقدر بنحو 425 مليون دولار. وقبل أن تتجه البلاد نحو الفوضى والاستقالات السياسية، اضطرت الحكومة إلى تقديم 200 مليون دولار كتعويض للمزارعين و149 مليون دولار كدعم إضافي.

فشلت التجربة العضوية في سريلانكا بشكل قاطع بسبب حقيقة واحدة بسيطة وهي أن البلاد ليس لديها ما يكفي من الأراضي لاستبدال الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية بالسماد الحيواني؛ إذ إنه للتحول إلى المواد العضوية والحفاظ على الإنتاج في آن واحد، تحتاج سريلانكا إلى روث أكثر بخمس إلى سبع مرات من إجمالي روث ماشيتها اليوم.

الأسمدة النيتروجينية الاصطناعية، ومعظمها مصنوع من الغاز الطبيعي، هي معجزة حديثة وحاسمة لتغذية العالم. وبفضل هذه الأسمدة إلى حد كبير، تضاعف الإنتاج الزراعي ثلاث مرات في نصف القرن الماضي، كما تضاعف عدد السكان. فالأسمدة الصناعية ومدخلات الزراعة الحديثة هي السبب في انخفاض عدد الأشخاص الذين يعملون في المزارع في كل بلد غني، وتحرير الناس لمهن منتجة أخرى.

في الواقع، أحد الأسرار المعيبة للزراعة العضوية هو أنه في البلدان الغنية، تعتمد الأغلبية العظمى من المحاصيل العضوية الحالية على النيتروجين المستورد المصنوع من روث الحيوانات، والذي يأتي في النهاية من أسمدة الوقود الأحفوري المستخدمة في الزراعة التقليدية.

بدون هذه المدخلات، إذا كان بلد ما، أو العالم، سيصبح عضوياً بالكامل، فإن ندرة النيتروجين ستصبح كارثية بسرعة، تماماً كما رأينا في سريلانكا. وتظهر الأبحاث كما ذكرنا أن التحول إلى عضوية على مستوى العالم لا يمكن أن يطعم سوى نصف سكان العالم الحاليين، وستؤدي الزراعة العضوية إلى غذاء أكثر تكلفة وندرة لعدد أقل من الناس، بينما تلتهم المزيد من الطبيعة.

لإطعام العالم بشكل مستدام، ولمقاومة الصدمات المستقبلية، نحتاج إلى إنتاج طعام أفضل وأرخص. ويظهر التاريخ أن أفضل طريقة لتحقيق ذلك هي تحسين البذور، بما في ذلك استخدام التعديل الوراثي، إلى جانب التوسع في مشاريع الري، وزيادة إنتاج الأسمدة والمبيدات. سيسمح لنا هذا بإنتاج المزيد من الغذاء، والحد من الأسعار، والتخفيف من الجوع، وإنقاذ الطبيعة.

*كاتب ورئيس مركز إجماع كوبنهاجن الفكري عن (تشاينا ديلي)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ورئيس مركز إجماع كوبنهاجن الفكري

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"