مجرات الكون والإنسان

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

الاكتشافات العلمية بلغت من الضخامة مبلغاً، جعلت الكثير من البشر يدركون أنها بداية حقبة علمية غير مسبوقة، وهي تعتبر ثورة تختلف كمّاً وكيفاً عن كافة الثورات التي صاحبت فلسفات نهايات القرن التاسع عشر وما شهدته علومه الفيزيائية والتطبيقية.

هذه التطورات العلمية هدمت المفاهيم القديمة حول الكون، وليس ذلك في حقل الفيزياء فقط، بل أيضاً في كل ميدان من ميادين الحياة. ونتيجة لكل ذلك أصبحنا نعيش مرحلة انتقالية جديدة من مراحل الصراع بين الإنسان والكون، ومحاولات الإنسان لإخضاع القوى المادية الرهيبة لسلطان العقل، بالرغم من أنه على امتداد التاريخ الإنساني ظلت العلاقة بين الإنسان والوجود علاقة مضطربة، وفق النمو الإنساني، وتوسعه في طلب العلم وفهم الحياة. لذلك لا يمكن الفصل في الاستراتيجية الحقيقية بين الأرض والفضاء، فالكل واحد، والإنسان معنيّ بالأرض ومعنيّ أيضاً بمعرفة الكون من حوله، وبقدر ما تتحقق له المعرفة بما يدور حوله، بقدر ما يتمكن من تحقيق ذاته وإثبات وجوده في الأرض، وتطوير نفسه وامتلاك أدوات جديدة تساعده في التغلب على المصاعب المختلفة والمتعددة التي تعترضه.

ومن هنا نشأت فكرة استكشاف الفضاء لدى الدول الكبرى، وتم إطلاق الكثير من الأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية، وقد حقق الإنسان مكاسب علمية كثيرة في هذا المجال، وعرف الكثير من الأسرار التي كانت غامضة من قبل. لكن لايزال هناك الكثير الكثير من الأسرار المغلقة، والتي تتعلق بالمجرات البعيدة الواقعة في أعماق الكون وعلى أطرافه، وهي المجرات التي تستحوذ على كنز الأسرار، ومن هنا جاء إطلاق الولايات المتحدة الأمريكية، عبر وكالة ناسا، المنظار الفضائي «جيمس ويب».

وقد استغرق بناء هذا المنظار الفضائي نحو ثلاثين عاماً، وهو جهد مشترك بين وكالات الفضاء الأمريكية والأوروبية والكندية. وبلغت تكلفته نحو عشرة مليارات دولار. وقد وصل بعد إطلاقه إلى مداره النهائي حول الشمس على بعد نحو 930,000 ميل من مدار الأرض في يناير الماضي، وهو أبعد مكان تصل إليه أدوات الإنسان الفضائية حتى الآن. وكان أحد الأهداف الرئيسية لمنظار جيمس ويب، العثور على مجرات بعيدة جداً جداً لدرجة أن الضوء المنبعث منها كان من المتوقع أن يسافر طوال تاريخ الكون بأكمله تقريباً للوصول إلى المنظار.

 ومؤخراً أطلقت «ناسا» أول صورة بالألوان الكاملة من منظار جيمس ويب الفضائي، وهي صورة بالأشعة تحت الحمراء لعنقود من المجرات تعرض لمحة هي الأكثر تفصيلاً على الإطلاق لنشأة الكون، بالنظر إلى ما يزيد على 13 مليار سنة، والصورة ملأى بآلاف المجرات وتظهر أصغر الأجسام التي تمت ملاحظتها على الإطلاق. والسؤال الذي يطرح نفسه، بعد هذا الوقت الذي استغرقه بناء المنظار، وتكلفته الكبيرة، ما أهمية تلك الصور؟! ولماذا أثيرت حولها تلك الضجة الكبيرة ؟!

في الواقع تكشف هذه الصور حقائق جديدة لم يعرفها العلماء من قبل عن الكون، وكشفت اللثام عن أسئلة وتصورات في مخيلات العديد من الباحثين والعلماء، فقد اتضح من خلال الصور احتواء الكون على العشرات من المجرات تفوق في حجمها مجرتنا درب التبانة منذ أمد بعيد، وما خفي أعظم وأحرى أن يستحث خيال الباحثين، ويُغري شهية العلماء لاكتشاف المزيد في قادم الأيام.

لقد تمكنت عدسة هذا المنظار من أن تلتقط صور تلك المجرات عند انبثاقها من الانفجار الكبير قبل أكثر من عشرة مليارات سنة، لذا فإن تلك الصور التي يلتقطها المنظار هي لمحات من العمليات التي شكلت النجوم والكواكب قبل وقت طويل من ظهورنا. ومن المؤكد أن هناك حقائق أخرى تخفيها «ناسا»، لأنه من غير المعقول أن يتم كشف كل ما يستكشفه هذا المنظار، لأن الهدف الأساسي من وراء إطلاقه هو تحقيق سبق علمي للولايات المتحدة ودول الغرب على الدول الأخرى المنافسة في العالم.

ومن هنا فإن منظار جيمس ويب يمثل عملاً غربياً متقدماً لفهم الكون واستكشافه، وسوف تتوالى المفاجآت التي سيقدمها هذا المنظار تباعاً، لكن من غير المعروف ما إذا كان سيتم الوصول إلى الغاية من خلاله، فهل سيتمكن هذا المنظار من وضع أقدام دول الغرب، التي صنعته وأرسلته، على عتبة الاستكشاف الحقيقي للكون؟! وهل ستتمكن من استثمار هذا الاستكشاف في تحقيق عوائد مادية ترفعها من جديد كما رفع استكشاف أمريكا، من قبل، أوروبا من حالة الضعف التي كانت بها إلى القوة، وجعلها تسود العالم؟!

إن دول الغرب تقف اليوم أمام منعطف تاريخي، فهي بعمومها تعاني ركوداً اقتصادياً غير مسبوق، قد يتسبب في كارثة حقيقية لعموم الشعوب الغربية، ولهذا فهي بحاجة إلى إنقاذ عاجل، لكن هل سيكون هذا الإنقاذ من مكان غامض في هذا الكون سيكتشفه منظار جيمس ويب؟!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"