القمح

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

ها هو القمح على صغر حبّته يصبح اليوم لغة العالم كلّه من سهوب أوكرانيا مروراً بجبال الأناضول وانتهاءً إلى ميناء طرطوس أو أي ميناء آخر في هذا الأفق المتوسطي الذي كان يُسمى الهلال الخصيب.
كان القمح في بلاد الشام، سورية، والأردن، وفلسطين، ولبنان، والعراق، علامة عزّ، وإشارة رخاء بخاصة إذا كان الموسم المطري في فصل الشتاء غزيراً وكريماً مثل قلوب الفلاّحين..
كان الرجل في حقول القمح في هذا القوس الشامي إذا اختبأ واقفاً في حقل قمح لا يظهر منه رأسه.. كناية كما يقول الفلاّحون عن طول القمح وغزارته وخصبه..
القمح قصيدة القرويين في أرياف الهلال الخصيب الذي كان خصيباً، أما اليوم، فقد جَفّت أرض الهلال، وتحوّلت تلك الحقول الخضراء إلى وحدات سكنية إسمنتية بشعة وقاسية حتى لو كانت سقوفها حمراء وخضراء بذلك القرميد المزيّف..
يولد القمح طفولياً صغيراً أخضرَ تماماً ويسمّيه المزارعون «الصمّاخ» في تلك المرحلة الأولية من نموّه السريع..
يكبر القمح ببطء، ولكن بسرعة مُضْمرة مخفية لا يعرفها إلاّ الريفيّون الذين يعرفون الحبوب والزرع والنبات مثلما يعرفون زوجاتهم وأولادهم وأبناء عموماتهم، لا بل، سمعت في طفولتي من يقول «القمح أبي، والشعير أخي، والذرة ابنة عمّي..».. فهل إلى هذا الحدّ يؤنسن القرويّون القمح، ويحوّلونه إلى كائن بشري حيّ..؟؟..
أجل كائن حيّ.. فمن «الصمّاخ» إلى الغمر، إلى ركنة القش، إلى البيدر بعد الحصاد، ثم إلى قمح ذهبي مسكوب مثل العسل في أكياس الحنطة، ثم إلى طحين، والطحين إلى خبز، والخبز إلى طعام، والطعام إلى عيش وحياة..
حروب كثيرة وثورات شعبية فقيرة، وشعوب قديمة ومعاصرة انتفضت، ونزلت إلى الشوارع، وملأت الأرض بالصراخ والغضب من أجل الخبز..
ارتبط الجوع أو ارتبطت ظاهرة الجوع بالخبز، والأصل في أيّ جوع هو القمح، وشعوب القمح هي شعوب الوفرة والأمن والعافية..
اليوم، بل الآن وأنت تقرأ هذه السطور مَنْ ينكر عليك أن القمح هو عنوان الحدث، وعنوان الخبر، وعنوان الرواية المخيفة دائماً:.. «الجوع».
كان الملح في مرحلة طفولية من مراحل البشرية أغلى من الذهب، وكانت بعض حواضر العالم القديم تصرف رواتب موظفّيها بصرر من الملح، لكن في كل هذا التاريخ الواقعي والأسطوري للملح كان القمح شقيقاً موازياً لهذه المادة الحادقة البيضاء التي لا يستوي طعام رائع إلاّ بها، وما من رغيف إلاّ وكان هو الآخر أسطورة أو مخيّلة أو تاريخاً من الخبز المالح إلى الخبز الحافي إلى خبز القرن الحادي والعشرين.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"