الأصوليات والمفهوم الراديكالي

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

إن البشرية اليوم على أبواب حقبة جديدة من تاريخها، هذه الحقبة تمثل المدخل إلى عالم مختلف عن ذي قبل، حيث يجري حصار الادعاءات الكبرى للتنوير حول العقل والإنسان والحق، فينتفي مفهوم الحقيقة على صعيد نظرية الأخلاق والقيم الكبرى كالحق والخير، وتعصف بالعديد من القناعات، وأولى تلك القناعات التي تم العصف بها هي ندية الثقافة أو الأصولية المتشددة، بعد أن خيل للعالم أنها تلاشت وانتهت إلى غير رجعة، خاصة في زمن العالم الرقمي، وهيمنة الحداثة.

ومع ذلك عادت الأصولية بالكلية كمهيمنة على الحقيقة، ومؤسسة لخطاب الكينونة، ما جعل الحقيقة قاب قوسين أو أدنى من الشك، والعقل على مرمى حجر من اللامعقولية، والكون أقل تماثلاً ووحدة وتناغماً، حين يتخلل خطاب الهيمنة الأصولية عبر مسارب الاختراق والتناقضات والتعقيد، في عالم ينزع نحو الانكسار والهزيمة، وكأن البشرية المادية تسبح في الفراغ.

ولا عجب أن نرى كل هذه الغرابة غير المألوفة في الاتجاهات الفكرية والاجتماعية والسياسية، في إشكالية دقيقة ممتلئة بالتعبير والحركة والانفعال. إن ما بعد الحداثة والتي تحتوي على عناصر لا عقلانية متمثلة بوجه خاص في الأصوليات الدينية حيث عجزت الحداثة عن إقصائها عن المشهد الثقافي والديني، على الرغم من أن هذه الأصوليات تفرغها من مضمونها إلى حد بعيد، فلم تستطع الحداثة أن تغير من الواقع  لإيمان البعض بأن الأصوليات مضمونها مطلق، والتفكير في النسبي بما هو مطلق، وليس بما هو نسبي، بمعنى أن الدنيا لا شيء حتى لو أدى ذلك إلى تدمير الحياة، أي ليس ثمة هدف أو غاية من هذه الحداثة من دون الإيمان بالنزعة الأخلاقية في فهم حقيقة الحياة. فلا أخلاق أبدية، ولا قيم ليبرالية، بل نزعات فردية تتسم بالنسبية القصوى إلى مبدأ أصولي متطرف، حيث العبث والهمجية يجعلان من روح الإنسان السامية مجرد شيء تسهل التضحية به، وبذلك يموت الإيمان عندما يقاتل طفل باسم الجهاد، وتحرم المرأة من التعلم والمعرفة والعمل، ويقتل شيخ كبير بريء لا ناقة له ولا جمل فيما يدور حوله، وتُسترخص الدماء وتُستحل، عندها يحلّ الخراب ناشراً أفقه المظلم من أجل تدمير الخير في الإنسان خارج الصيرورة الاجتماعية والأخلاقية، مع المراكمة الزمنية، عندما يتم مطاردة المفكر والكاتب، على الواقع المتخم باعتلالات كبرى، نتيجة تصادم البشرية بما وصلت إليه من انفصامات ظلماتية في الفكر، خاصة السياسي منها.

إن الألم والاغتراب والقلق الذي يعانيه المتشددون، عبر تاريخ الصراعات الدينية، يجعلهم يسوغون، عن قناعة تامة استناداً إلى معتقدهم، رغبتهم في إقصاء الآخر المختلف، وتحطيم النزعة الإنسانية في مسلكية الإنسان والقيم وتقليص مساحات الحرية والحق في المشاركة في العيش والعلم؛ بحيث تختفي هذه القيم تحت ركام الأنا، ومنظومة الدين تكون بطريقة الممارسة الدينية على خلفية أصولية تعارض فعل العبادة في الدين بين الاعتقاد الديني والممارسة الدينية؛ ويشكل هذا الصراع الإيديولوجي في بعض دول العالم الإسلامي أبرز الأزمات البنيوية، التي تتمظهر بين الفينة والأخرى على شكل صراعات سياسية واجتماعية، وتنحو نحو نفي الآخر وإلغائه من الفضاء الاجتماعي، ومن مفاهيم الحداثة والخصومة مع العلم والفلسفة والمنطق والرياضيات، واعتبارها ضرباً من ضروب الكفر بصرف النظر عن الظروف السياسية والنهضة العلمية.

ومادام المجتمع الأصولي يشكل في جوهر علاقاته اليومية امتداداً مباشراً للمجتمع المتطرف، فإن كل هذه الممارسات، مهما كانت من خطابات أسطورية تحفل بها الأديان والميثولوجيات، لتلامس خلفيات أنثروبولوجية ثقافية متجذرة في سجية تلك الشعوب المتخلفة، فإنها ستجد، في بعض المجتمعات المتطرفة، من يبررها على الصعيدين الإعلامي والثقافي ، ومن يدعمها على الصعيد السياسي والاقتصادي، لأنها في التحليل الأخير شكل من أشكال العلاقات التي طبقها السلف زمناً طويلاً على شعوب كثيرة.

إن من حق الشعوب أن تطمح للعلم والأمان والتفرغ لقضايا التنمية الحضارية لمجتمعاتها، ومن واجب الجميع أن يطرحوا طموحاتهم للثقافة العادلة والنهوض الاجتماعي والحضاري.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/dwh4yc48

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"