تحقيق سياسي في واقعة اغتيال

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السناوي

لم يخطر ببال السفير المصري إيهاب الشريف، وهو يتلقى التعليمات بالتوجه إلى بغداد، أنه على موعد مع الجحيم.

كان رجلاً به لمسة فنان يعشق التصوير الفوتوغرافي، لكنه لم يتوقع أن تكون صورته الأخيرة ملتقطة بكاميرا فيديو: وجه مُغمى بعصابة قماش لا تخفي فزع موت وترقب نهاية بطلقة رصاص على رأس، أو ضربة سكين على رقبة.

كانت بغداد «الرحلة الأخيرة» في حياة سفير يهوى أدب الرحلات والكتابة عن الأماكن التي يزورها بحكم عمله الدبلوماسي، لعله تصور – للحظة – أنه في رحلة اعتيادية لبلد أراد أن يكتشف بنفسه معالمه، فخرج لشراء صحف بدون حراسة كافية وإجراءات أمن.

هكذا تضافرت عناصر المأساة وتصاعدت بسرعة لأيام رعب تحت تهديد سلاح في يد جماعات قتل لا ترحم انتهت بطلقة رصاص في 6 يوليو2005.

لم يكن لمصر أية مصلحة في إضفاء نوع من الشرعية على سلطة سياسية جاءت بها قوات احتلال.

بضغوط مارستها وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت «كونداليزا رايس» على الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في منتجع شرم الشيخ، جرى إرسال السفير الجديد لبغداد.

قيل إن وجوده يساعد على تدعيم «العملية السياسية»، فيما كان المقصود إضفاء غطاء عربي على حكومة عراقية انتقالية تحت سلطة الاحتلال، حتى تحتذي الخطوة نفسها دول عربية أخرى.

لم تكن أطراف عديدة في الخارجية المصرية، بتقاليدها وأعرافها، مستريحة للإقدام على تلك الخطوة في توقيتها ودواعيها.

لم يكن خياراً صحيحاً توريط مصر في المستنقع العراقي، غير أن مبارك وجد في طلب رايس فرصة سانحة ينتظرها لتخفيف الضغوط الأمريكية في ملف الإصلاح السياسي.

اعتقد أن لعب دور في العراق قد يكون أكثر محورية للإدارة الأمريكية من ملفات الإصلاح السياسي.

هكذا سارعت وزارة الخارجية في إرسال سفير جديد على عجل إلى بغداد.

كانت أقدار السفير إيهاب الشريف أن يدفع حياته كلها ثمناً لسياسة خاطئة.

رغم ذلك لم يكن هناك أي دور مصري ملموس يعتدّ به في التعقيدات السياسية العراقية بعد الاحتلال.

ولم يكن أحد في الولايات المتحدة مستعداً أن يستمع لنصائح الرئيس المصري، التي لا يكف عن ترديدها بمناسبة، أو بغير مناسبة.

في لقاء مغلق مع عدد من المثقفين المصريين عقد بالقصر الجمهوري على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، وكان الحدث العراقي ملتهباً بشراراته الأولى، روى مبارك أنه اقترح على الأمريكيين عدم حل الجيش العراقي، معتبراً أن ذلك سوف يؤدي إلى انفلات أمني وغياب أية قدرة على السيطرة.

فيما نصح به تشكيل مجلس عسكري من رتب لواء وعميد لإدارة الدولة العراقية في مرحلة ما بعد صدام حسين.

لم يكن الرفض الأمريكي لمثل تلك النصائح تقديراً متسرعاً من إدارة جورج دبليو بوش وفق الأهداف التي وضعها لاحتلال العراق، ومن بينها تدمير أية مقومات قوة قد تسمح مستقبلاً لهذا البلد بلعب دور إقليمي محوري في المنطقة.

كان لافتاً في مداخلات مبارك أمام الكاميرات، أو في الجلسات المغلقة مع أعداد محدودة من المثقفين أو رؤساء التحرير، تجاهله لأية حجج سيقت عن غياب الديمقراطية في العراق لتسويغ غزوه.

كان يرى - بنص كلامه بعد احتلال بغداد مباشرة - أن العراق لا يمكن أن تحكمه غير قبضة حديدية كقبضة صدام.

فيما روى أن الرئيس العراقي صحبه ذات مرة في جولة بالسيارة داخل شوارع بغداد، كان يقود السيارة بنفسه وهو بجانبه.

عندما وصلا إلى شارع الرشيد، قال صدام لضيفه: «عند هذه الزاوية كنت أقف ومعي سمير النجم، بالسلاح أثناء محاولة اغتيال عبد الكريم قاسم».

كان استنتاج مبارك أن العنف من طبيعة العراقيين وأن ذلك البلد يستحيل حكمه بغير القبضات الحديدية متأثراً بانفراط العقد العراقي وكتل النار التي انفجرت فيه.

قيل وقتها على نطاق واسع إن الحرب من أعمال التحرير وإشاعة الديمقراطية.

رغم اتضاح بشاعة ما جرى في العراق، وبالعراق فإن أحداً لم يعتذر عما قاله أو كتبه.

دُمّر العراق تماماً، التدمير طال كل شيء، وأدت تلك السياسة بما رافقها من مداهمات لبيوت آمنة وتنكيل بشع بالمعتقلين في السجون إلى رفع سقف العنف إلى حدود غير مسبوقة في تاريخ مقاومة الاحتلالات في العصور كلها.

اختلطت الصور بين عمليات مقاومة للاحتلال مشروعة في كل القوانين والشرائع الدولية، حظت وقتها بدعم واسع من القطاع الأغلب في الرأي العام العربي، وبين عمليات إرهاب استهدفت مدنيين أبرياء، لجأت لوسائل بشعة تنكيلاً بأية قيمة إنسانية كخطف المراسلين الأجانب وقطع الرؤوس.

انفجرت براكين الجحيم، وكان السفير المصري إحدى ضحاياها.

رغم مرور سنوات طويلة على حادث الاغتيال، إلا أن تحقيقاً سياسياً لم يفتح وقتها حتى نعرف ما الأخطاء التي ارتكبت وكيف ولماذا كان ذلك ممكناً؟!

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y5b36vet

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"