المدن المتاحف.. القاهرة وروما

00:21 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. مصطفى الفقي

صدر لي كتاب عام 1997 كتبته وأنا سفير لبلادي في العاصمة النمساوية بعنوان «ليالي الفكر في فيينا»، وذكرت في مقدمته أن المدن كالبشر لكل منهم جاذبية خاصة ومزاج مختلف، وضربت أمثلة بمدن انبهرت بها عندما زرتها في مقدمتها لندن وبعض المزارات الصيفية في شمالي إيطاليا، كما أن آخر عاصمة للخلافة الإسلامية وهي مدينة «إسطنبول» قد أثارت دهشتي لجمالها، وأنا أرى المآذن والقباب والقصور الفريدة ترتفع في سماء تلك المدينة الرابضة على المضايق التي تربط البحرين الأبيض والأسود، كما أذهلتني مدينة في الهند تسمى (سملا) وهي التي جرى فيها توقيع اتفاقية تقسيم شبه القارة الهندية في نهايات أربعينات القرن الماضي، فهي مدينة رأسية ينتقل فيها الناس بالحبال القوية ترفعهم إلى مستويات مختلفة من الجبل الذي يمثل الأرضية الأفقية لتلك المدينة الفريدة التي بهرتني وجعلتني أدرك أن الإنسان هو قاهر الطبيعة في كل مكان.

كما أن أول زيارة لي لباريس عام 1973 في طريق عودتي من لندن لقضاء إجازة نصف المهمة الدبلوماسية في العاصمة البريطانية، جعلتني أنظر إلى باريس وجمالها والمقاهي الصاخبة على جانبي شوارعها التي تشهد بوضوح على أن عاصمة النور هي من أجمل مدن الدنيا، وأظن أني لو كنت أجيد الفرنسية لاتخذتها مزاراً موسمياً مثلما يفعل صديقي العزيز منير فخري عبد النور وزير السياحة ثم التجارة والصناعة في حكومات سابقة، لكن هناك تعبير ألح على خاطري وأنا في زيارتي الأخيرة للعاصمة الإيطالية روما؛ حيث تأكد لي الانطباع الذي أحمله لتلك المدينة رائعة الجمال والتي تبدو فاتنة العصور وحاضنة التراث وعاصمة الرومان منذ قرون عديدة، فهي (المدينة المتحف) بمعنى الكلمة، تفوح منها رائحة التاريخ ويطل من ضيائها مزيج عجيب بين الشرق والغرب، فهي مدينة تراثية متجددة تجمع الماضي والحاضر جنباً إلى جنب.

وما أكثر المدن التي أعجبتني في رحلة العمر فمدينة (أخن) الألمانية والتي يسميها الفرنسيون (إكسلاشابيل) وهي مدينة مرتبطة ببداية نشأة القانون الدولي منذ عدة قرون قد بقيت محفورة في ذاكرتي عبر السنين، كما أن مدينة (ميونيخ) لا تقل روعة عن المدن الألمانية الكبرى بدار الأوبرا الفخيمة التي تتوسطها ولا يتفوق عليها إلا أوبرا فيينا الشهيرة.

وبالمناسبة فإني أرى المدن نوعين نوع يبهرك على المدى القصير في زيارة خاطفة، ونوع آخر يشدك للحياة فيه لسنوات قد تطول، لأنك تجد روحك متوافقة مع نمط الحياة فيها وإيقاع التواجد على أرضها، ولعل مدينة لندن التي أسميها في تاريخي الشخصي (أم المدائن) هي النموذج الذي ارتبطت به وعشت فيه خمس سنوات في مطلع حياتي وما زلت أحتفظ فيه بمسكني الخاص منذ عام 1971 حتى الآن، فهي مدينة أممية لا تفرق بين أبنائها وزوراها، وتبدو وكأنها مدينة عالمية مفتوحة للجميع بلا تفرقة أو تمييز.

كما أن التحفظ البريطاني كأحد مكونات الشخصية الأنجلوسكسونية يعطي الحياة هناك بعداً إنسانياً هادئاً لا يشعر به إلا من عاش فيه وفهم أعماقه التي تضرب بجذورها لترتبط بعصر النهضة الأوروبية والتي كانت إيطاليا على الجانب الآخر هي النموذج الأبرز له، أما العاصمة النمساوية فيينا فهي أنظف مدن الأرض، وقد عشت فيها سنوات أربع عانيت خلالها الجليد الدائم والرياح الباردة، ولأنني مصري قادم من الجنوب، فقد افتقدت فيها التلوث السمعي والبصري وأشعرتني نظافتها الشديدة وتنظيمها الدقيق أنني قادم من كوكب آخر أرتبط به وأحن إليه، وعلى الرغم من أنها مدينة الموسيقى وبلد موزارت ورفاقه من كتيبة الموسيقيين العظام فإنها تفتقد روح لندن وباريس فهي مدينة مثالية يمنعها الحياء والحياد من أن تكون طرفاً فاعلاً بقوة في السياسات الأوروبية والدولية، وذلك على الرغم من وجود الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مشارف نهر الدانوب الذي بدأ يعاني الجفاف هذا الصيف وسط تلك المدينة الفاتنة.

وبالعودة إلى قاهرة المعز يمكننا أن نسجل أنها متحف مفتوح بامتياز، فمنطقة الأهرام وأبو الهول هي أكبر متحف على كوكب الأرض، وشارع المعز يمثل وحده متحفاً إسلامياً كبيراً عظيم الشأن والقيمة، نعم إن القاهرة هي أكبر متحف متعدد الحضارات متنوع الثقافات متكامل الديانات على وجه الأرض، إنها المدينة التي ورثت الحضارة الفرعونية الملهمة والثقافة اليونانية المؤثرة والسلام الروماني الذي نسج خيوطه في الإسكندرية وامتدت آثاره، لتشمل قلب العالم المعاصر تأكيداً لوحدة ثقافات دول البحر المتوسط وشعوبه المتميزة.

إن المدن المتاحف لا تتوقف عند حد، فمدينة (الأقصر) المصرية وحدها تحتوي على ما يصل إلى ربع التراث الإنساني القائم على وجه البسيطة حتى الآن، وليست تلك كلمات نطلقها من بلد الأهرام والكرنك وأبو سمبل، لكنها شهادة سجلها اليونيسكو ويؤكدها في كل مناسبة، ألم أقل في كتابي المشار إليه منذ سنوات أن المدن كالنساء لكل واحدة شخصيتها وجاذبيتها وعطرها فالتنوع سنة الحياة وفلسفة الوجود، والمدن كائنات يمتد تاريخها ويعيش حاضرها ليستمر مستقبلها، إنها شواهد التاريخ وحواضر الأمم في كل زمان ومكان.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/tc8t6haf

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"