«الرقائق» بين السوق التنافسي والموجّه

22:05 مساء
قراءة 4 دقائق

آن كروجر*

تُعد صناعة أشباه الموصلات الأمريكية الرائدة عالمياً شهادة على المزايا التي يتمتع بها اقتصاد السوق التنافسي على الاقتصاد الموجّه مثل الصين. لكن الآن وبعد انخراطها في أعمال تفضيل بعض المنتجين على غيرهم، فإن الولايات المتحدة تعمل على إضعاف أداء الصناعة بشكل مزمن.

أصبحت الرقائق الإلكترونية، إحدى أهم ابتكارات القرن الماضي، من المدخلات الحاسمة اليوم في الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر الشخصية والتقنيات التعليمية والمركبات والآلات الثقيلة والأدوات الطبية والمعدات العسكرية وغير ذلك الكثير. ومنذ البداية، خضع القطاع لتطورات سريعة، ومنها تقلص في الحجم وزيادةٌ في الأداء.

وفي عام 1965، لاحظ جوردن إي.مور، أحد مؤسسي شركة «إنتل»، أن عدد الترانزستورات الموجودة على شريحة الكمبيوتر يتضاعف كل عام، حتى مع استمرار انخفاض تكاليفها. وما أصبح يُعرف باسم «قانون مور» يبقى صحيحاً تقريباً اليوم، لأن آليات البحث والتطوير تستمر في رفد هذه التكنولوجيا المهمة بمعدل سريع.

أتاحت التطورات التي حققتها الشركات الأمريكية مزيداً من الاستخدامات وتخفيضات أكبر في التكلفة، ما جعل الولايات المتحدة رائدة عالمياً في ابتكار وتطوير الرقائق. وبينما تركز بعض الشركات على البحث والتصميم، تتخصص أخرى في تصنيع أشباه الموصلات، ولا يزال البعض الآخر يفعل كلا الأمرين. في غضون ذلك، وخلال الأشهر الأولى من جائحة فيروس كورونا، تسببت الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية في نقص بأشباه الموصلات، ما أجبر مصانع السيارات وغيرها من القطاعات المختلفة على إبطاء الإنتاج أو إيقافه في بعض الأحيان. ورد صُنّاع السياسات في العديد من الاقتصادات المتقدمة بحزمة تدابير وقائية لزيادة القدرة الإنتاجية المحلية. وفي الولايات المتحدة، مربط الفرس، تُوج هذا العمل بقانون «الرقائق الإلكترونية والعلوم» لعام 2022 الذي أقره الكونجرس ووقعه الرئيس جو بايدن ليصبح نافذاً في التاسع من أغسطس/آب.

يسمح التشريع الجديد للحكومة الفيدرالية بإنفاق 52 مليار دولار لتمويل بناء مصانع جديدة لأشباه الموصلات في الولايات المتحدة. وسيتم تخصيص الأموال وفقاً للمعايير التي حددتها وزارة التجارة، لكن في المقابل، يمنع القانون متلقي الأموال الفيدرالية من زيادة إنتاجهم من الرقائق المتقدمة في الصين للسنوات العشر المقبلة.

ووفقاً لويل هانت من مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة بجامعة جورج تاون الأمريكية، من المتوقع الآن أن تنسق الولايات المتحدة مع البلدان الرئيسية الأخرى المصنعة للرقائق لتجنب المنافسة المحتدمة، ولكن يبقى أن نعرف كيف سيطبق هذا الأمر. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية واليابان وسنغافورة والصين يخصصون بالفعل موارد لدعم تصنيع أشباه الموصلات المحلية. حيث ضخت الحكومة الصينية نحو 100 مليار دولار أو أكثر من الإعانات والدعم لصناعة أشباه الموصلات، ما أدى إلى تأسيس حوالي 15700 شركة جديدة ذات صلة في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2021.

علاوة على ذلك، وضعت «إنتل»، إحدى أكبر الشركات العالمية المتخصصة في الرقائق ومعالجات الحواسيب، حجر الأساس لأحد مصانعها في ولاية أوهايو، ووعدت بزيادة استثمارها البالغ 20 مليار دولار في الولاية بحدة إذا تلقت دعماً كبيراً بما يكفي لمساعدتها على التنافس مع الموردين الأقل تكلفة في أماكن أخرى.

فكيف ستتنبأ الحكومة باتجاهات الصناعة وتخصص الموارد بشكل فعال؟

تعتبر التسهيلات اللازمة لإنتاج أحدث تقنيات أشباه الموصلات باهظة الثمن بشكل غير عادي، لذلك كانت الصناعة على مدار التاريخ حذرة إلى حد ما بشأن توسيع الإنتاج، وهذا هو السبب في وجود تقلبات واسعة بين النقص والتخمة. والأهم من ذلك، أن بناء مرافق التصنيع الأولية في أوهايو (المعروفة باسم المسابك) يستغرق 4 إلى 5 سنوات، وهو نفس الوقت الذي يستغرقه تطوير الجيل التالي من رقائق الكمبيوتر.

لكن السيئ في الأمر هو ازدياد الأدلة على انخفاض الطلب على الرقائق، حيث تتوقع شركة«Gartner» الاستشارية أن شحنات أجهزة الكمبيوتر العالمية ستنخفض بنسبة 9.5% هذا العام. وعليه اتخذت المزيد من البلدان خطوات استباقية لزيادة السعة، وهي بذلك تمهد الطريق لوفرة مكثفة في السنوات المقبلة. ومع ذلك، ولأنهم وضعوا الاكتفاء الذاتي أولاً، ستكون التكاليف أعلى، وستكون نفقات البحث والتطوير أقل مما كان عليه الحال لو سُمح للأسواق بالعمل دون إعانات.

تخطط «تايوان لصناعة أشباه الموصلات» TSMC، الشركة التايوانية التي تقود العالم في إنتاج الرقائق الأكثر تقدماً، وشركة «سامسونج» الكورية لافتتاح مرافق إنتاج في الولايات المتحدة، ولكن يبقى أن نرى ما إذا كانت وزارة التجارة ستعتبرهما مؤهلتين للحصول على الأموال بموجب قانون الرقائق الجديد. ومهما حدث، فإن أولئك الذين لا يتلقون إعانات استثمارية في الولايات المتحدة والدول الأخرى سيكونون في وضع غير مؤات عند التنافس مع الشركات المدعومة. وهذا من شأنه أن يثبط الداخلين الجدد.

يتعارض قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم لعام 2022 مع السياسة الأمريكية السابقة الداعمة لنظام التجارة المفتوح متعدد الأطراف، كما أنه يستنسخ بالضبط نوع السياسة التي تتهم الولايات المتحدة الصين باتباعها. ولا يمكن أن يكون هناك سوق حر تنافسي لأشباه الموصلات بمجرد أن يتم دعم مصانع بعض الشركات بشكل كبير على حساب الأخرى. فالمنافسة هي التي جعلت الاقتصاد الأمريكي منتجاً للغاية، وعززت البحث والتطوير في العديد من المجالات، بما في ذلك أشباه الموصلات.

في حين أن هناك مخاوف مشروعة تتعلق بالأمن القومي بشأن إمدادات أشباه الموصلات المستقبلية، لا يعرف المخططون الحكوميون المصانع التي سيتم بناؤها الآن من أجل إنتاج أنواع الرقائق عالية الجودة التي ستكون مطلوبة بعد بضع سنوات. وبالنسبة للرقائق المنتجة حالياً، سيكون من الأرخص ببساطة الاحتفاظ بمخزون (خاصة بعد أن بدأت تلوح في الأفق تخمة العرض قصيرة الأجل).

صحيح أن اقتصادات السوق التنافسية تؤدي بشكل أفضل بكثير من الاقتصادات الموجهة مركزياً، وهذا ينطبق بشكل خاص على صناعة جديدة نسبياً تطورها التكنولوجي المستقبلي غير مؤكد، لكن من المستغرب أن تختار إدارة بايدن (إلى جانب الأغلبية من الحزبين) الرد على سياسة الصين، غير الفعالة من وجهة نظرهم، بتبني سياسة شبيهة.

*كبيرة الاقتصاديين السابقة بالبنك الدولي، ونائب العضو المنتدب سابقاً في صندوق النقد الدولي، وأستاذة الأبحاث الاقتصادية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنزعن (بروجيكت سيندكيت)

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4a42xkdw

عن الكاتب

كبيرة الاقتصاديين السابقة بالبنك الدولي، ونائب العضو المنتدب سابقاً في صندوق النقد الدولي، وأستاذة الأبحاث الاقتصادية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"