أخلاق الحرب

00:32 صباحا
قراءة 3 دقائق

أتذكّر قبل عقود، كان أحد قساسوسة قرية فيشا الصغرى المجاورة لقريتي في ريف مصر، مشهوراً بمعرفته الواسعة ليس بأمور الدين فقط، وإنما بأمور الدنيا بشكل عام. وذات مرة كان يتحدث عن تراجع القيم والأخلاق في المجتمع، فسألته: وما الحل في رأيك «يا أبونا يوسف»؟ ففكر قليلاً، وقال كلمة واحدة: الحرب. وبما أني، وأولاده، كنا صغاراً في المدرسة الإعدادية فلم نفهم إجابته. لكن بعد سنين، ومع الوعي المتأخر، أدركت ما كان يقصده أبونا يوسف. فقد كان متأثراً بلا شك بحالة المجتمع المصري والعربي في حرب أكتوبر 1973 بين العرب وإسرائيل. فقد أظهرت تلك الحرب حالة من التضامن والإيثار وتراجع السلبيات الاجتماعية والأخلاقية بشكل واضح.
 بالتأكيد لم يكن أبونا يوسف، وهو رجل الدين المتسامح الواعي والمطلع داعية حرب، ولكنه كان يقصد أن الحرب باعتبارها أشد الأزمات التي قد تواجه البشر تظهر أفضل ما في البشر. لكن التجربة والمعرفة فيما بع،د جعلت المرء يدرك أن الأزمات كما تفجر أفضل ما في البشر، تظهر أسوأ ما فيهم أيضاً.
 ولنا في الأزمات التي تواجهها البشرية الآن خير مثال. فالحرب في أوكرانيا، رغم بشاعتها كساحة تزهق فيها أرواح البشر، وتدمر الممتلكات، بغض النظر عن مبرراتها والموقف من أطرافها، هي أيضاً أزمة تظهر أسوأ ما في خصال البشر. ليس المقصود بأخلاق الحرب على طريقة النبلاء والفرسان في العصور القديمة، فقد تطورت المجتمعات البشرية وأدوات الحروب بشكل جعل مكانها متحف التاريخ. إنما القصد الأخلاق والقيم التي تسود في أوقات الحرب، باعتبارها أزمة.
 أظهرت حرب أوكرانيا أشكال العنصرية التي كانت مستترة في الوعي الغربي خلف الخوف من انتهاك القوانين. وظهر الإعلام أيضاً على حقيقته الفجة بأنه ليس موضوعياً، ولا محايداً كما يدعي في أوقات السلم. بل تحول إلى أدوات دعاية فجّة تعتمد التلفيق والتضليل المعلوماتي بهدف الحشد والتعبئة وإثارة المشاعر عالية الوطنية، التي تشبه تلك المشاعر التي كانت في إيطاليا وألمانيا، ما بين الحربين العالميتين.
 ولا يقتصر ذلك على بروز ذلك الخلل الأخلاقي تجاه «الآخر»، بل إنه حتى بين الغرب نفسه تجد أن الحرب أصبحت وسيلة لمحاولة البعض تحقيق المكاسب الانتهازية بطريقة «تجار الحروب»، ليس المكاسب الاقتصادية والسياسية فقط، بل حتى تلك التي تمسّ أسس الإنسانية، من دون اعتبار لمن يقتل، أو ما يدمر، بل الدفع إلى المزيد من القتل والدمار لتعظيم المكاسب.
 مثال وحيد فقط، تظهره أرقام وكالة الطاقة الدولية مؤخراً، التي تبرز استفادة الولايات المتحدة بقوة من أزمة الطاقة التي تواجهها أوروبا بزيادة صادرات النفط والغاز للدول الأوروبية، وبأسعار عالية تعظّم أرباح الشركات الأمريكية، في الوقت الذي تدفع أمريكا وبريطانيا دول أوروبا لتشديد العقوبات على روسي،ا ووقف استيراد الطاقة منها بهدف مواجهة الخطر الروسي بإضعافه.
 بوادر ذلك الخلل الأخلاقي كانت أشد وضوحاً في أزمة «وباء كورونا» عند بدايتها قبل عامين. وكانت تلك حرباً أيضاً، واجهتها البشرية كلها مع عدو مجهول هو فيروس «كوفيد19». وما حدث حين تكالبت دول العالم على منتجات الوقاية الصحية الشحيحة من سرقة بعض الدول لشحنات موجهة لدول أخرى أكثر تعرضاً لخطر الوباء، واستغلال دول أخرى قدراتها لاستيلاء على شحنات تكدسها كان يمكن أن تنقذ أرواحاً في بلدان غيرها. بل وكان يمكن أن تحد من الانتشار الهائل للوباء في أنحاء العالم.
 صحيح أن المصالح الوطنية تتقدم على غيرها، خاصة في أوقات الأزمات. لكن ما يحدث في زماننا المعاصر يتجاوز تحقيق المصالح إلى تغليف ذلك بإطار أخلاقي يبدو «وطنياً»، لكنه في حقيقته مغالاة في الوطنية تصل إلى حد العنصرية.
 وبدلاً من التسامح والتعاضد الإنساني لضمان استمرارية البشرية تظهر الأزمات أسوأ خصال البشر من انتهازية وعنصرية وكذب وتلفيق وتضليل.. الخ.
 الأرجح، أن أخلاق الحرب والأزمات المتدهورة ستشهد مزيداً من التدهور والتراجع، ولن ينجو منها سوى المجتمعات التي ترسخ قيم ومبادئ التسامح والمبادرات الإنسانية التي تربّي شعوبها على نبذ نلك الخصال. هؤلاء هم من تبرز الحروب والأزمات أفضل ما في البشر من خصال وأخلاق وقيم. ولعل مجتمعاتنا تكون في مقدمة البشرية في هذا السياق، بعدما بدأ إناء الغرب المجتمعي وغيره ينضح بخصال وأخلاق متدنية.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9y3st5

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"