«الخيار شمشون» في عالم فوضوي

00:07 صباحا
قراءة 4 دقائق

يكاد زمام الأزمة الأوكرانية المتفاقمة يفلت من أي قيد. من تصعيد إلى آخر في ميادين القتال والسياسة والاقتصاد يجد العالم نفسه مشدوداً إلى مواضع النار، كأنه طرف مباشر فيها.
 نفي «الطابع العالمي» للأزمة تجهيل بها من حيث هي صراع مفتوح على مستقبل النظام الدولي، أو اختبار ميداني لموازين القوى المستجدة، أو التي قد تستجد، في عالم متغير.
 هناك عالم قديم يغرب لكنه لا يريد أن يخلي مواقعه، وعالم جديد يولد من دون أن تتضح معالمه.
  وفي الهوة بين القديم والجديد تتبدى فوضى دولية ضاربة. لا نحن في حرب باردة جديدة حيث تغيب أية قواعد اشتباك كالتي حكمت العالم أغلب سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولا الحرب النووية قدر مكتوب، فإذا ما انزلقت إليها السياسات بحماقات القوة فإنها كلمة النهاية للحضارة الإنسانية كلها، ولا أي شيء بعدها.
 كان لافتاً تراجع الكرملين عن التلويح بالخيار النووي بعبارات أقرب إلى التنصل مما تورط فيه عندما بدأت قواته تتراجع بفداحة في ميادين المواجهة العسكرية.
 التلويح بدا تعبيراً عن نوع من اليأس، والتراجع عكس بدرجة أخرى نوعاً من الثقة بترميم الأوضاع الميدانية وكسب الحرب بالنقاط في نهاية المطاف.
 المعضلة الحقيقية أن أحداً من أطراف المواجهة العسكرية في أوكرانيا ليس بوارد أن يراجع مواقفه، أو أن يتراجع عن مطالبه، كأن ما هو مطروح عليه «الخيار شمشون» أن يكسب كل شيء، أو أن يهدم المعبد فوق رأس الجميع.
 نحن أمام معادلات مضطربة في عالم فوضوي لا تحترم فيه أية قوانين دولية، ويفتقر بفداحة إلى أية قواعد، أو أصول تضبط صراعاته ونزاعاته.
  في مشهد دولي متناقض أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية (143) صوتاً ما أطلق عليها «الاستفتاءات غير القانونية والصورية»، التي ضمت بمقتضاها أربع مناطق أوكرانية للاتحاد الروسي، فيما كان رجله القوي «فلاديمير بوتين» يشارك بفاعلية في قمة «أستانا» الآسيوية.
 الإدانة الأممية تنطوي نظرياً على عزلة روسية دبلوماسية مفترضة فيما المشاركة في القمة الآسيوية تعكس واقعياً حضوراً فاعلاً في المعادلات الدولية.
 فلا كل الذين صوتوا ضد موسكو يناهضونها ويطلبون عزلتها، ولا كل الذين امتنعوا عن التصويت محايدون- الصين والهند كمثالين.
 جرت إدانة روسيا استناداً إلى القوانين الدولية، التي تجرم ضم أراضي دولة أخرى بقوة السلاح، أو باستفتاءات مشكوك في نزاهتها، فيما لا تحظى هذه القوانين نفسها بأي اعتبار في حالات أخرى مماثلة، كضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية المحتلة.
 ازدواجية المعايير إحدى مناطق الخلل في بنية النظام الدولي المتهالك، الذي تغيب عنه أية قدرة على استبيان الحقائق، فكل شيء يخضع للمصالح المتغيرة، أو لمنطق القوة القاهرة.
 شيء من ذلك حدث في التفجيرات التي نالت من خطي أنابيب الغاز «نورد ستريم1» و«نورد ستريم2». الأطراف المتنازعة أجمعت على وصفها ب«العمل الإرهابي». كل طرف حمّل الآخر مسؤوليته من دون أن تتبدى أدنى فرصة لإجراء تحقيق مستقل وشفاف.
 وبحكم المصالح الاقتصادية المباشرة لا تصب التفجيرات في مصلحة روسيا، ولا في مصلحة أوروبا. وبعض الفرضيات الرئيسية ذهبت إلى أن الولايات المتحدة ربما تكون تورطت فيها لقطع أية صلة استراتيجية اقتصادية مستقبلية بين روسيا وألمانيا، من دون أن تضع في اعتبارها أزمة الغاز المستحكمة التي تنذر بشتاء أوروبي قارس، خاصة في ألمانيا وفرنسا.
هذا العمل التخريبي لا تقدر عليه سوى دولة كبرى- حسب تقدير الشرطة الألمانية.
كل شيء محتمل ووارد في مثل هذا النوع من الحروب، بغضّ النظر عن القوانين الدولية، حتى لو تضررت البيئة في بحر البلطيق، واهتز الأمن في دول أوروبية عدة، وتفاقمت أزمة الغاز في أوروبا كلها.
 كانت حجة واشنطن من مسألة الطاقة وقرار «أوبك+» مستهلكة، ولم يكن «بايدن» مستعداً لأن يتفهم أسباب تخفيض إنتاج النفط بالإجماع، إنه الاقتصاد، أولاً وأخيراً. فالسياسات الأمريكية تعمل طوال الوقت على خدمة كبريات شركاتها بما في ذلك التدخل العسكري المباشر وإطاحة حكومات ونظم، كما حدث بانقلاب تشيلي، واغتيال الرئيس «سلفادور اللينيدي»، في سبعينات القرن الماضي.
  وفي أحوال الفوضى الدولية الراهنة، لم يكن ممكناً أيضاً إجراء أي تحقيق في مسؤولية انفجار جسر القرم. أوكرانيا اعترفت بمسؤوليتها قبل أن تتراجع وتنسب الحادث «الإرهابي» إلى صراعات الأجهزة الأمنية في موسكو.
  وجرى احتفاء غربي واسع بما جرى فوق الجسر، وإدانة رد الفعل الروسي العنيف بقصف البنية العسكرية والمدنية في العاصمة كييف. انتهكت المعايير مرة أخرى من دون أي اعتبار- كما هي العادة- للقوانين الدولية.
 وارتفعت مجدداً دون مقتضى أحاديث الخيار النووي، بلغة تحذير من الجانب الغربي، هذه المرة، أن تقدم عليه موسكو، فالعواقب سوف تكون وخيمة.
 إنه التصعيد ثم التصعيد، ثم المزيد من التصعيد، من دون أن يكون هناك أي مؤشر في الأفق المنظور لوقف «الخيار شمشون».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycxctvyt

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"